الخميس , يوليو 4 2024
أخبار عاجلة

ماذا أراد الطيب صالح بهذا مثلا؟


في طريق عودته عبر الطريق الصحراوي بالسيارة إلى الخرطوم يصف الطيب صالح في الجزء السابع من رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال”، رحلته فيقول: “وبرز لنا من وراء التل إعرابي جاء يهرول نحونا، وقطع الطريق على السيارة فتوقفنا. بدنه وثيابه بلون الأرض. وسأله السائق ماذا يريد؟ قال: “أعطوني سيجارة أو تنباك لوجه الله. لي يومان لم أذق طعم التنباك”. لم يكن عندنا تنباك فأعطيته سيجارة. وقلنا بالمرة نقف قليلاً ونستريح من عناء الجلوس. لم أرَ في حياتي إنساناً يشرب السجائر بتلك اللهفة. جلس الإعرابي على مؤخرته وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف. بعد دقيقتين مد يده فأعطيته سيجارة أخرى. التهمها كما فعل مع الأولى. ثم أخذ يتلوى على الأرض كأنه مصاب بالصرع. وبعدها تمدد على الأرض وطوق رأسه بيديه وهمد تماماً كأنه ميت. وظل هكذا طول مكوثنا، زهاء ثلث ساعة. ولما دارت محركات السيارة، هب واقفاً، إنساناً بعث إلى الحياة، وأخذ يحمدني ويدعو الله لي بطول العمر، فرميت له علبة السجائر بما بقي فيها. وثار الغبار خلفنا، وراقبت الإعرابي يجري نحو خيام مهلهلة عند شجيرات ناحية الجنوب. عندها غنيمات وأطفال عراة. أين الظل يا إلهي؟ مثل هذه الأرض لا تنبت إلا الأنبياء. هذا القحط لا تداويه إلا السماء. والطريق لا ينتهي والشمس لا ترحم، والسيارة الآن تولول ولولة على أرض من الحصى مبسوطة كالمائدة. “إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها”. من قال هذا؟ ثم: “كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”. والسائق لا يتكلم. امتداد للمكنة التي يديرها، يلعنها أحياناً ويشتمها، والأرض حولنا دائرة غرقى في السراب. “وظل يرفعنا آل ويخفضنا آل وتلفظنا بيد إلى بيد”. محمد سعيد العباسي، يا له من شاعر. وأبو نواس “شربنا شرب قوم ظمئوا من عهد عاد”. هذه أرض اليأس والشعر ولا أحد يغني”.
هكذا وصف عبقري الرواية العربية رحلته بالسيارة ووصف الطريق والأرض. والعبارة الأخيرة في وصفه للأرض (هذه أرض اليأس والشعر) والسابقة لها (هذه الأرض لا تنبت إلا الأنبياء)، هما العبارتان المعنيتان في عنوان هذه المقالة بالتساؤل والاستفهام، ءلك لأن لهاتين العبارتين أصلا في تأريخ الفكر الفلسفي الغربي الذي يفسر نشأة الفلسفة بتفسير عرقي يزعم أن منشئها هو العرق الآري اليوناني لأن هذا العرق هو الوحيد الذي بمقدوره التفكير العقلاني، بينما العرق السامي أو الذي ننتمي إليه ليس بمقدوره إنتاج شيء سوى الدين والشعر، لا الفلسفة.
يقول الباحث المغربي الدكتور الطيب بوعزة أن جمهور مؤرخي الفكر الفلسفي الغربي يدعون القول بان نشأة الفلسفة حدث ثقافي أوروبي منشأه اليوانان وأن هذه النشأة لم يكن لها سبق ولا تمهيد. ولذلك عبروا عن هذه النشأة بكونها معجزة، معجزة يونانية. وهذا القول في حقيقته يناقض حتى العقيدة الفلسفية اليونانية نفسها، والتي تقوم في الأساس على أن “لا شيء من لا شيء”، وأن لا بد من أن “يؤسس سابق للاحق”، وأن لا بد “لكل خلف من سلف”. لكن جمهور اللمؤرخين الأوروبيين يحرصون على المغالطة بمحاولة توكيد أن الفلسفة اليونانية ذات نشأة ذاتية، وأنه لم تسبقها نشأة قبلها على الاطلاق، وما قولهم بأنها معجزة ليس سوى لأنه لا توجد هناك من أسباب ظاهرة لتفسير نشأتها ذاتياً في اليونان.
لكن بالمقابل عندما يتعمق المرء في التفاصيل فإنه يجد ان الفلاسفة اليونانيين القدماء أنفسهم، هؤلاء الذين يقال عليهم إنهم أنشأوا الفلسفة من فراغ ومن لا شيء، يجدهم يعترفون هم أنفسهم بوجود سبق لنشأة الفلسفة في الحضارات الشرقية. ويجدهم يقولون إن طاليس أول الفلاسفة كان فينيقياً أي عربياً ولم يكن يونانياً. وطاليس هذا هو الذي يقول عنه أرسطو بأنه مؤسس النمط الفلسفي. ويقول عنه هيرودوت، أبو التاريخ، ذلك أيضاً كذلك.
ترى ماذا قصد عبقري الرواية العربية بوصف “هذه الأرض التي لنا” بأنها أرض الشعر، والتي لا تنبت إلا الأنبياء، وحيث لا أحد فيها (يغني)، تماما كما يروج لذلك أصحاب التفسير العرقي لنشأة الفكر الفلسفي؟.
تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان

30 يونيو: يوم له تاريخ 1 – 2

في مثل هذا اليوم، 30 يونيو من عام 1936م، وقف رجل أسود اللون نحيل البنية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا