السبت , أبريل 27 2024
أخبار عاجلة

من حكاوي الغابات

في مذكراته “زمان الوصل” روي عم عوض لطفي قائلا، ذات يوم أخطرني محافظ الغابات بأن مدير المديرية يود بناء معسكر للشرطة بملكال ويحتاج إلى أخشاب دوم. وأمرني بتجهيزها من غابة خور الدوم بمنطقة الرنك، فاتصلت بإبراهيم يوسف بدري ابن أخ الشيخ بابكر بدري، وكان مأموراً على الدينكا ومركزه الرنك، وكان يحب الدينكا ويحبونه حباً شديداً وكان يجيد لغتهم. أخبرته بالمهمة الموكلة إلي فأمرني بألا أقطع أي شجرة. ثم أتصل بمدير المديرية وأخبره بأهمية الغابة بالنسبة للدينكا حيث أنهم يلجؤون إليها بأبقارهم للراحة عقب انتهاء مواسم الحصاد ويقيمون فيها أعراسهم فتفهم المدير الأمر”. وأضاف عم عوض معلقاً هكذا كان المسؤولون فى تلك الفترة يحسون بما يضر وينفع أهاليهم.
ويواصل عم عوض مذكراته ليقول: زارني مرة كبير مسؤولي غابات سنار بغرض التفتيش فلما مر على حلال قسم نظارة فضل المرجى وجدها خالية من الناس ما عدا بعض كبار السن الذين أخبروه بذهاب أهل الحلال للعمل بمشروع كساب بالقرب من سنار وذلك لفشل الزراعة ذلك العام بسبب شح الأمطار. فتأثر المسؤول الإنجليزي كثيراً وعند رجوعه إلى سنار صدق بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه للعمل بها لصالح الغابات الواقعة في محيط تلك القرى المنكوبة. ويمكنني التعليق على تلك الحادثة هذه المرة نيابة عن عم عوض وأقول هكذا كان المسؤولون فى تلك الفترة يعرفون علاقة الغابات وصلتها الوثيقة بمعايش الناس وإلا لما صدق كبير مسؤولي غابات سنار بذلك المبلغ للغابات.
ويضيف العم عوض في مذكراته قائلاً: حين كنت مسؤولاً عن الغابات على امتداد نهر الدندر، من مصبه في النيل الازرق وحتى حدود الحبشة، طلب مني رئيسي المباشر العم سليمان محمد أحمد وكان يقيم بواد مدني، والمستر كيبلينك وكانت رئاسته بسنار، طلبا أن يرافقاني الى منطقة حظيرة الدندر. وفى أثناء وجودنا هناك مرت بنا أعداد كبيرة من الجواميس عندها وقفنا لكي نسمح لها بتخطينا، لكن حارس الحظيرة طلب من مستر كبلينك ان يواصل سيره لأن الحيوانات لا تنزعج منه، فالتفت إليه العم سليمان وانتهره قائلاً “ما هذه البلبصة يابنى”، فرد عليه الحارس لأن الخواجات لا يضربون الحيوانات في المنطقة المقفولة ولذلك لا تنزعج منهم ولكن السودانيين اعتادوا ضربها.”
ويقول عم عوض: استدعيت ذات يوم لرئاسة الغابات بسنار، وأخبروني بأن طالباً موفداً لجامعة أدنبرة لدراسة الغابات هناك سوف يحضر لمنطقة خور العطشان بسنار بغرض التدريب وتعلم “شقاوة وعمل الغابات”. كان ذلك الطالب هو أبو الغابات كامل شوقي، وقد استغرقت الفترة التدريبية خمسة عشرة يوماً قضيناها كاملة بلياليها على ظهور الجمال داخل غابات خور العطشان”.
ويروي أبو الغابات كامل شوقي في مذكراته ويقول “ذات مرة وفي غيابي بالإجازة قام مفتش الزراعة بمركز ييي بزراعة البن داخل الغابة المحجوزة لغرس الأشجار الخشبية، وأصبحت في حيرة من أمري فالبن محصول حكومي إذا قطعته سأتعرض للمساءلة، لذلك اتفقت مع مساعدي عوض لطفي الذي تدربت على يديه في خور العطشان قبل ابتعاثي لأدنبرة على غرس التيك وسط البن فطغى عليه وبذلك خرجنا من المأزق”. تعليقي على هذه الحادثة التي رواها أبو الغابات، أحياناً في شغل الغابات يستدعي الأمر استخدام “القوة المميتة” كهذه التي استخدمها أبو الغابات لان تحيا الغابات.
يروى أبو الغابات كذلك ويقول، أنه طلب أثناء الحرب العظمى الثانية من حسن معني أحد أقدر قدامى رجال الغابات إنتاج أوتاد لخيام جيوش الحلفاء في الشرق الأوسط وذلك بإجراء عملية تخفيف (شلخ) على غابة لوني بمنطقة الفونج، وبعد أن أكمل العملية ظن أهل الغابات أن السيد حسن معني قد بالغ في تخفيف الغابة لكن بعد سنوات ثبت أن ما فعله كان هو العلاج التربوي الأصوب لأن الغابة استفادت من تلك العملية التي ظنها أهل الغابات خطأ وازدهرت وأشجارها وأصبح ذلك الإجراء بعد ذلك قاعدة تربوية أساسية في إدارة غابات السنط في منطقة الفونج. تعليقي على هذه الحادثة أن هناك أحداثاً كثيرة تحدث بالصدفة يكون لها دور بارز بعد ذلك في حياة الناس، بعضها دفع للنجاح وبعضها قاد للفشل. وما حادثة اكتشاف أميركا عام 1492م بالخطأ والصدفة ببعيدة عن الأذهان إذ كان قصد “كولومبس” من رحلته محاولة الوصول الى جزر الهند الشرقية ولكنه مات دون ان يدري هول ما اكتشف بالصدفة.
من قصص الغابات الطريفة ما رواه أبو الغابات كامل شوقي من أن محافظ الغابات مستر فايدل هول كان يريد تحريك أحد المناشير من مكان إلى مكان آخر أغزر شجراً في غابات الجنوب. وكان عليه لفعل ذلك عمل دراسة جدوى، ولأن الدراسة كانت تكلف ألف جنيه، فقد آثر أن يخرج بنفسه راجلاً لقياس وحصر شجر الفوبا الذي تصنع منه فلنكات السكة حديد. فخرج بهد ان قال إنه سيعود بعد أسبوع، ومضى الأسبوع ولم يعد. فجاءتني زوجته –يقول كامل شوقي- هلعة وكنت أنا المسؤول في غيابه، فاتصلت بالمديرية في جوبا وأرسلوا لنا طائرة من طراز (داف) كانت تأتي من الخرطوم إلى جوبا مرة في الأسبوع وحلق الطيار في الغابة عسى أن يأنس ناراً أو أي دليل يقود للوصول للمفقود، كما خرجت مجموعة من الباحثين المشاة تجوب الغابة وتضرب الطبول عسى أن يهتدي إليهم المفقود، أو يهتدوا إليه لكنه لم يظهر إلا بعد أسبوع آخر. وعندما عاد قال لنا :أنا خرجت راجلاً لمهمة مفتوحة في غابة شاسعة ومن المحتمل أن أتاخر فلمَ الجزع، يقول كامل شوقي ولما علم مفتش المركز مستر (ديوك) بالحادث وكانت بينه وبين فايدل هول منافسة قديمة حول الزواج من مسز جريس وفاز بها فايدل هول وتزوجها، كتب مستر (ديوك) في جريدته الأسبوعية ساخراً من فايدل هول بقوله: “إن مفتش الغابات ضل طريقه في غابته وعليه نقرر وضع لافتات في الغابات توضح الطريق إلى منزله حتى لا يتوه مرةً أخرى”.
كانت تلك مقتطفات من مذكرات بعض أفذاذ رجال الغابات في ماضي الغابات البعيد، كامل شوقي وعوض لطفي رحمهم الله.
تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

الأرض مقابل البلاستيك

غراس الروح ايكوسودان الشفيع احمد بغية الوصول لأهداف التنمية المستدامة لكوكب الأرض وبعد أن وافقت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا