الخميس , سبتمبر 19 2024
أخبار عاجلة

العلقة–الهلبة-الشقيق، ومثلثات سودانية أخرى

أثبتت الأبحاث العلمية أن الكون بنى على أساس أشكال هندسية مثل المثلث والمربع والشكل الدائري، سميت بأشكال الهندسة المقدسة. وأثبتت الأبحاث كذلك أن هذه الأشكال متغلغلة في صميم النسيج الكوني، من أصغر الأشياء فيه مثل بلورات الثلج وحتى تكوين الإنسان نفسه. وفي اعتقاد القدماء أن هذه الأشكال الهندسية المقدسة ذات أهمية لاكتساب الإنسان وعيه الذاتي وخلق توازن داخلي بين ذاته وبين عالمه الخارجي.
من الأشكال الهندسية الجغرافية المعروفة لدينا مثلث برمودا أو مثلث الشيطان ومثلث التنين والتي ينسب إليها ظواهر اختفاء السفن والطائرات، وقد تأكد مؤخراً زيف هكذا ادعاءات. ومن المثلثات الجغرافية السودانية مثلث العيلفون — الدبيبة – العسيلات السحري كما أسماه الأستاذ الصحفي سيف الدين عبد الحميد. ولهذا المثلث الكائن بمنطقة شرق النيل بولاية الخرطوم سرٌّ خفي بقول الأستاذ سيف الدين، لم يتكشف لنا بعد، فهو إما أنجب شاعراً غنائياً أو مطرباً أو روائياً. ومن هؤلاء محمد ود الرضي الذي قضى حياته يقرض الشعر الغزلي الغنائي متي واتته المناسبة، يرتجله ارتجالاً على طريقة “القطع الأخدر”. والشاعر أحمد محمد الشيخ (الجاغريو) الذي يتنفس شعراً، والفنان أحمد محمد بركات وعميد الفن والفنانين أحمد المصطفى، والفنان والملحن سيد خليفة، وبلبل أغنية الحقيبة الغريد وشيخها مبارك حسن بركات، وفنان الحماسة الأول في السودان خلف الله حمد، وثنائي الدبيبة عبد الله يوسف ودفع الله عشيب، والإخوان الروائيان إسحاق وعمر أحمد فضل الله.
يعزو الأستاذ سيف الدين سر هذا المثلث إلى بركات الشيخ ود الأرباب التي سرت على هذا المثلث منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر وكان من مخاضها كما يقول جلاءُ النفوس وترقيقها لتأتي نفوساً شاعرةً ومطربةً، وإلى وجود شياطين من الجن كذلك يقول الأستاذ سيف الدين على عادة العرب تملي على هؤلاء المبدعين نصوص أشعارهم وإيقاعات أنغامهم، إذ يتلبس الروائي والصحفي إسحاق أحمد فضل الله مثلاً جن القصة فأسمى عموده الصحفي “آخر الليل” على توقيت زيارة الجن له ليملون عليه ما يكتب، ولم يكن شقيقه الروائي عمر يقول الأستاذ سيف الدين بأقل استحضاراً لجنون هذا المثلث السحري في صناعة أعماله من شقيقه إسحاق، فقد اقترح على المؤتمر الاقتصادي الذي اتعقد في مطالع التسعينيات الاستعانة بالجن لإصلاح الاقتصاد السوداني.
هناك مثلث جغرافي سوداني آخر، هو مثلث العلقة –الشقيق- الهلبة الذي يقع بمنطقة شمال النيل الأبيض من الناحية الغربية للنيل، والذي ظل يشهد منذ الأسبوع الماضي أحداثاً مأساوية مؤلمة راح ضحيتها عدداً من المواطنين شهداء، ومن بينهم الطبيب الشاب أنس ابن زميلنا الزراعي والدفعة عبد الله القراي، عليه وعلى كل شهداء الوطن الرحمة والمغفرة وحسن القبول. ويعتبر هذا المثلث، والذي أطلقت عليه مسمى مثلث الوعي، مركز تجاري مهم، فهو أكبر سوق ريفي بولايتي النيل الابيض وكردفان المجاورة، فهو رافد رئيس لصادر المواشي والمحاصيل الزراعية وكثير من السلع الحيوية الأخرى.
ينبع سر تسميتي لهذا المثلث بمثلث الوعي من خلال حادثتين، الأولى أحكيها على لسان صديقي ورفيق الدراسة الباكرة والصبا الأستاذ أحمد عبد الله حميدة أبشنب والذي هو من مواطني المنطقة تقريباً، إذ يقول في عام 1979 صدقت مدرسة متوسطة لقرية الشقيق وتم تعييني مديراً لها. ولما وصلتها لم أجد إلا كرنك ضهر تور من قش المحريب، لم أتفاجأ بالطبع لأني ابن البيئة رضعت بؤسها وشقاها وبقيت مدة أسبوع أفكر وأفاكر، محتار متحير، أحاور وأشاور، فدعوت مجلس الآباء الأعيان وهم خيرة من عرفت من الرجال، رجال من صنف الكبريت الأحمر والعيار الثقيل يضيف أبشنب، فأوضحت لهم أنه إذا لم تبنى المدرسة ووفق معايير معينة فسوف أقوم بتوزيع التلاميذ على مدارس قرى ومدن المنطقة وأسكنهم جميعا مع أسر محترمة بعلاقاتي الخاصة. لكن بحمد لله يقول أبشنب تم بناء المدرسة بحسب المواصفات المطلوبة في غضون أشهر معدودات، ولم يتبق لي سوى التشجير ففعلت ذلك بمعونة إدارة الغابات بالمنطقة.
الحادثة الثانية عايشتها بنفسي في حوالي عام 1981 حين اصطحبنا أستاذنا البروفيسور أحمد الحوري أحمد مدير مركز بحوث الغابات وقتها رحمه الله، إلى منطقة الشيخ الصديق المجاورة للعلقة حيث تم هناك إنشاء بعض المسورات بجوار إحدى الغابات، وذلك بغرض تفقد معدل التجدد الطبيعي للأشجار داخل المسورات بالمقارنة بخارجها، وما إن شرعنا في تخطيط موقع الدراسة لحساب البادرات النامية بكل من المنطقتين حتى فوجئنا بجمع من نساء القرية المجاورة للغابة يحيطن بنا في غياب رحال القرية الذين كانوا يعملون في الحقول بعيداً عن القرية، كانت النسوة في حالة استعداد لفعل أي شيء بوسعهن لتعطيل ما تبادر إليهن من أننا قد جئنا ننوي شراً بالغابة، ولم يغادرن الموقع إلا بعد أن هممنا نحن بمغادرته بعد إنتهاء مهمتنا عائدين إلى حيث أتينا.
كانت تلك لمحة لبعض المثلثات الجغرافية في حياتنا. وهناك بالطبع مثلثات سودانية أخرى منها مثلث عاصمتنا القومية ومثلث حلايب ومثلث عوينات، وهناك مثلث آخر صغير متبقي من فك حجز منطقة الرهد المحظورة التي كانت تقع شمال محمية الدندر القومية، والتي كانت تهاجر إليها حيوانات حظيرة الدندر في فصل الخريف وقد انقطعت هجرة هذه الحيوانات إليها بعد أن تم إبطال حجز هذه المنطقة وتحويلها إلى مشاريع زراعية ففقدت الحيوانات بذلك مخرفها بسبب جشع الإنسان، ولم يتبق من منطقة مخرف الحيوانات هذه سوى مثلث صغير غير ذي نفع تقريباً لزراعة أو ما شابه فخصص للغابات كالعادة.
أرأيتم لماذا أطلقت على مثلث العلقة-الهلبة-الشقيق مثلث الوعي، ذلك لأن أهاليه على درجة من الوعي أكثر من جهات كثيرة بما فيها الحكومة التي حرمت حيوانات حظيرة الدندر مخرفها وموئلها الطبيعي، ذلك لأن الحكومة أثبتت أن مثلها مثل من تنزل في شأنهم قرءان يتلى إِن تأمنهم بشيء لا يؤدونه إليك إِلَّا مَا دمت عليه قائما، فأنى لحيوانات مسكينة القيام بما قامت به نسوة مثلث الوعي مثلاً.
تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان

حوار مع ذكاء اصطناعي بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية

أنا: السلام عليكم، شفت عنوان حوار اليوم؟ هو: يبدو لاذعاً وممتعا! فيه لمسة من الدعابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا