ملتقي المستهلك 219
كمال الجزولي
المثقفون، خصوصاً المعلقين والمحللين السِّياسيين، لا يهتمُّون، عادة، سوى بالقضايا الكبرى التي تُحدِث فرقعة إعلاميَّة. لكن البيانات التي أدلى بها، مؤخَّراً، رئيس وحدة مكافحة نقص المغذِّيات الدَّقيقة بوزارة الصحَّة الاتحاديَّة في السُّودان، لمفزعة بحق، رغم أنها لم تُحدِث الفرقعة المطلوبة!
قد كشف الرَّجل، في إفادته أمام منتدى جمعيَّة حماية المستهلك، بالسبت 28 مارس 2015م، عن أن 22% من جملة السُّكان يعانون من نقص “اليود” في أجسامهم، مِمَّا يؤدِّي، فضلاً عن إجهاض الحوامل، وولادة الأطفال الموتى، وموت الأطفال حديثي الولادة، ونقص أو انعدام حاسة السَّمع، وعيوب الكلام، وقصر القامة، وتضخم الغدة الدرقية، إلى مجموعة أمراض “ذهنيَّة”، كـ “التخلف العقلي”، و”تلف الدُّماغ”، و”تناقص نسبة الذَّكاء”، حيث يولد حوالي 242.400 طفل، كلَّ عام، وهم مصابون باضطرابات مختلفة، وأن 7000 طفل قد يصبحون “مختلين عقليَّاً”، وأن 24.000 يعانون من “تخلف عقلي حاد”، و210.000 سيكبرون وهم يعانون من “خلل ذهني” (اليوم التَّالي؛ 29 مارس 2015م).
الحكومة نفسها استشعرت الفزع، على ما يبدو، إزاء هذه البيانات، والتي ربَّما كانت أخطرها الأرقام المتعلقة بـ “التخلف العقلي”، فانتفضت، فجأة، كمن يدفع عن نفسه “تهمة” ما، لتسارع إلى تأكيد اهتمامها بشريحة “المعاقين ذهنيَّاً”، وذلك من خلال خطاب عبد الرَّحمن الصَّادق، مساعد رئيس الجُّمهوريَّة، أمام مؤتمر علمي عن “الإعاقة الذهنيَّة” تصادف انعقاده بعد يومين، فقط، من منتدى حماية المستهلك، حيث قال إن رئيس الجُّمهوريَّة أصدر توجيهات مهمَّة بتنفيذ احتياجات ذوي “الإعاقة الذِّهنيَّة” في الصِّحَّة، والتَّعليم، والتَّمكين الاقتصادي، والعيش اللائق (اليوم التَّالي؛ 31 مارس 2015م).
(2)
غير أن المفارقة في بروباغاندا مساعد رئيس الجمهوريَّة إنَّما تكمن في كون بيانات حماية المستهلك لا تنصبُّ على احتياجات “المعاقين ذهنيَّاً” عقب إصابتهم بـ “الإعاقة”، وإنَّما على أسباب هذه “الإعاقة”، أساساً، ومن أهمِّها نقص الغذاء. فما مِن عنزين يمكن ينتطحا على مسؤوليَّة الحكومة، في المقام الأوَّل، عمَّا يمكن أن يترتَّب على نقص الغذاء، أو عدم سلامته، من كوارث تشمل، فيما تشمل، الإصابة بـ “التَّخلف العقلي” mental retardation الذي يُعرِّفه العلماء بأنه انحطاط في نسبة الذَّكاء يُعجز صاحبه عن التعلُّم صغيراً، وعن تدبُّر شؤونه كبيراً؛ أما أن تبلغ نسبة هذه الإصابة 22% من المواطنين، فتلك “فضيحة” بامتياز! إذ أنه، ومع الإقرار بمسؤوليَّة المستهلك الذَّاتيَّة عن التَّسلح بقدر من الوعي لدى تسوُّق غذائه، فضلاً، بالطبع، عن مسؤوليَّة المنتجين، والمصنِّعين، والموزِّعين، وتجَّار التجزئة، أو مَن يُطلق عليهم “شبكة إمداد الغذاء”، إلا أن المسؤوليَّة الكبرى عن الإشراف على كلِّ هذه الشَّبكة، وضمانات توفير الغذاء السَّليم بتكلفة معقولة، إنَّما تقع، في نهاية المطاف، على عاتق الحكومة التي تُعتبر من أهمِّ وظائفها المحافظة على الصَّحَّة العامَّة، ومنع ظهور أو انتقال الأمراض، بسبب نقصان الغذاء، أو سوئه، وذلك برسم السِّياسات والاستراتيجيَّات اللازمة، وتحديد النُّظم والمواصفات الفعَّالة، وسنِّ التَّشريعات والقوانين الرَّادعة، وتطبيق المعايير الدَّوليَّة بشأن الحماية من مخاطر الأغذية، سواء المنتجة محليَّا أو المستوردة؛ وقبل ذلك كله، بل فوق ذلك كله، محاربة الفقر بتطبيق شكل معقول من العدالة الاجتماعيَّة التي تحول دون إصابة الناس بـ “الأمراض العقليَّة” بسبب الحاجة التي تدفعهم إلى تعاطي غذاء فاسد، أو ناقص القيمة، سيَّان
(3)
حديثنا ينصبُّ، هنا، على “التخلف” بدلالته “الجَّسديَّة” و”العقليَّة”، لا دلالته “الفكريَّة”. فالأخيرة بدأ تناولها منذ مطالع خمسينات القرن المنصرم، في إثر هزيمة النَّازي، وانهيار النظام الاستعماري القديم، ورفرفة رايات الدِّيموقراطيَّة فوق قبَّة العالم، وتدشين حصول الكثير من بلدان العالم الثَّالث على استقلالها السِّياسي. وقد استتبع تناوُلُ “التخلف” بهذه الدلالة، منذ ذلك الوقت، مباحث متعمِّقة لشبكة من المعارف والعلوم السِّياسيَّة، في حقول الاقتصاد، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، وغيرها، شاملة ما يُعرف بـ “اقتصاد التَّخلف”، و”اجتماع التَّخلف”، وما إليهما، مثلما استتبع، لاحقاً، الكثير من أطروحات علم النفس الاجتماعي، كمدخل بحثي إلى سيكولوجيَّة الإنسان المقهور، وتفسير “التَّخلف” على صعيد سلوك الإنسان، وقيمه، وردود أفعاله المختلفة، رغبة في تجاوز وضعيَّة القهر السَّابقة، سواء قهر السُّلطة أو قهر الطبيعة، والوصول إلى التوازن النفسي المطلوب.
وتختلف أعراض “التَّخلف الاجتماعي” عن أعراض “التخلف العقلي”، بحيث ينبغي عدم الخلط والتَّخليط بينهما من زاوية النظر المنهجيَّة. ونسوق في ما يلي أربعة من أبرز نماذج “التَّخلف الاجتماعي”، وفق أهمِّ الاستنتاجات التي ساقها مصطفى حجازي في كتابه المهم “سيكولوجيَّة الإنسان المقهور”. أوَّل هذه النَّماذج “دَوْرُ التعليم”، حيث لا يعدو كونه محض قشرة خارجيَّة ما تلبث أن تنهار عند الأزمات، فهو لا يشتغل كعامل تكامل للشَّخصيَّة، بل كمظهر لانفصامها. أمَّا النَّموذج الثَّاني فهو الانجذاب إلى “الماضي”، استمساكاً بالتَّقاليد أكثر من التَّصدي لإشكاليَّات “الحاضر” أو “المستقبل”، فكلا “الإنسان المتخلف” و”المجتمع المتخلف” سلفيٌّ بالأساس، حيث “الماضي” هو حصن من لا “حاضر” ولا “مستقبل” له. وأمَّا النَّموذج الثَّالث فهو أن كلا الإنسان والمجتمع المتخلفين يقعان في أسر المظهر والمسلك الاستعراضيَّين؛ حيث الهدف، بالتَّحديد، التَّستُّر على “عقدة عار” ما، خصوصاً على صعيد الاستعراض الاستهلاكي، والتبجُّح بثراء وجاهٍ لا أساس لهما في الواقع؛ وأمَّا النَّموذج الرَّابع فهو أن هذا الإنسان المقهور، بدلاً من أن يثور ضدَّ مصدر “عاره الحقيقي” في المجتمع المتخلف، يثور ضدَّ من يمثل “عاره الوهمي”، وهو .. المرأة!
(4)
لقد رُزئت بلادنا بـ “التَّخلف الاجتماعي” جرَّاء تاريخ طويل من التَّدخُّل الاستعماري، ومن التعسُّر الوطني. لكن، لئن جاز اعتبار أن ثمَّة ما هو أسوأ من هذا “التخلف الاجتماعي”، فهو “التخلف العقلي” الذي يعدنا به، الآن، واقع سياساتنا “الغذائيَّة” المزري، نحن الذين لا نكفُّ عن “التَّباهي” بأن بلادنا هي “سلة غذاء العالم”!
هذا “التخلف العقلي” يصنِّفه العلماء أوَّلاً في “أعراض جسـديَّة” تتمثَّل في بطء النُّموِّ الحركي، وصغر حجم ووزن الجِّسم، ونقص حجم ووزن المخ، وتشوُّه شكل وتركيب الجُّمجمة، والفم، والأذنين، والعينين، والأسنان، واللسان، والأطـراف، وضـعـف واضطـراب النَّشـاط عمومـاً؛ ويصـنِّفه هؤلاء العلماء، ثانياً، في “أعراض عقليَّة” تتمثَّل في بطء معدَّل النموِّ المعرفي، ونقصان نسبة الذَّكاء، وعدم انسجام القدرات، واضطراب الكلام، وضعف الذَّاكرة، والانتباه، والتَّركيز، والإدراك، والتَّعميم، والتَّخيُّل، والتَّصوُّر، والتَّفكير، والفهم، وضعف التَّحصيل، ونقص المعلومات، والخبرة، والعجز الجُّزئي أو الكلي عن كسب الرِّزق، والمحافظة على الحياة؛ ويصنِّفونه، ثالثاً، في “أعراض انفعاليَّة”، كالتقلب، والاضطراب، وبطء الانفعالات، وغرابتها، وسرعة التَّأثر، وجمود ورتابة السُّلوك، وقرب ردود الأفعال من المستوى البدائي؛ كما يصنِّفونه، رابعاً، في “أعراض اجتماعيَّة” تتمثَّل في صعوبة التَّوافق، واضطراب التَّفاعل، وضعف الاهتمام، وعدم تحمُّل المسؤوليَّة، واضطراب مفهوم الذَّات.
وللمتخلف عقليَّا صور شكليَّة، من أكثرها شيوعاً صورتا المنغولي والقميئي cretinous؛ فأمَّا الأولى فانعكاس لضعف العقل يتَّسِمُ بوجه مسطح، مكوَّر، تحفُّ به أذنان ضئيلتان، وفم صغير بشفتين غليظتين، وعينان ضيِّقتان، وجفون منحدرة باتِّجاه أنف أفطس قصير؛ وأما الثَّانية فحالة من عجز النُّموِّ الجِّسدي والعقلي تتميَّز بقِصَر القامة، وبروز البطن، وتثاقل الخطى، وخمول وبلادة النَّشاط عموماً.
(5)
تفاقُمُ ظهور أعراض “التخلف العقلي” هذه بصورة جماهيريَّة ليس مستبعداً كأحاجي الجِّدَّات، أو أفلام الرُّعب، أو روايات الخيال العلمي، بل هو حقيقة يُنتظر أن تتجسَّد، حتماً، في جيل أو جيلين، على أكثر تقدير، إذا ما استمرَّ حال نقص الغذاء وسوئه على ما هو عليه الآن، بحسب جرس الإنذار الذي يقرعه رئيس وحدة مكافحة نقص المغذِّيات بالسُّودان. فلك أن تتصوَّر بلداً موعوداً بظهور أعراض هذا المرض على 22% من بناته وأبنائه، أي ما يربو على خُمس شعبه، دَعْ الأمراض الأخرى، بينما مثقفوه تكاد لا تحرِّكهم سوى القضايا التي تحدث فرقعات إعلاميَّة كبرى؟!