أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
كاتب راي في مجال البئة والغابات

الدفاع عن السنط: ردٌ على دعاة الإبادة والاستثمار السريع

• في مجموعة نقاشية بعنوان “نقاشات الوعي الإداري”، طرحت دعوة صادمة: إبادة – نعم، إبادة شاملة – لكل الغابات المطلة على النيل الأزرق، مقابل حلم بجني 5 مليارات دولار سنويًا.
• هذه الدعوة، وإن بدت صادمة، ليست الأولى من نوعها؛ فقد سبقتها دعوات مماثلة.
• بعضها جاء من على منبر الجمعة، عَبْر أثير الإذاعة القومية، وبعضها الآخر في تصريح لأحد ولاة سنار، لم يمضِ على تعيينه شهران، قال لصحيفة “المستقلة”: لا تراجع عن تحويل غابات السنط النيلية إلى مزارع موز ومانجو.
• حجة السيد الوالي في ذلك، أغرب من دعوته نفسها: أشجار السنط – حسب قوله – تتسبب في مرض “المايستوما”، وليس لها أي قيمة مضافة تذكر، “زيرو”، كما أبرزت الصحيفة.
• لكن مثل هذه التصريحات ليست سوى ستار، يخفي وراءه أطماعًا في الأرض، ومشاريع استثمارية ضيقة تجهل – أو تتجاهل عمدًا – القيمة البيئية والاجتماعية لغابات السنط ووظائفها الحيوية.
• ما يؤكد ذلك، ذلك السيل الجارف من الطلبات الذي انهال على الهيئة القَومية للغابات، ممهورًا بتوقيعات بعض تجار الموز ومروجي هذه الدعوات من بين المسؤولين النافذين، وذلك في أعقاب توجيهات رئاسية بدا — على الأقل في ظاهرها — أنها تمهد لقضاء محتمل على ما تبقى من الغطاء الغابي النيلي.
• قبل التصدي لتلك المزاعم، يجدر التأمل في الطريقة التي تتعامل بها دول كفيتنام وإيران مثلاً مع أشجارها، بالاحترام والوعي البيئي، لا بالاجتثاث والاقتلاع. ففي هانوي، رأيت بعيني مبنى السفارة السودانية وقد صمّم ليلتف حول شجرة قائمة، امتثالًا لاشتراطات البيئة. وفي طهران، شاهدت شجرة تعيق حركة السيارات عند مدخل استراحة رسمية تابعة لوزارة الخارجية، لكنها أُبقيت تقديرًا لقيمتها.
• فما أبعد ما بين ذلك، وبين من يتعاملون عندنا مع الأشجار والغابات. إنها مفارقة صارخة بين وعي بيئي راسخ هناك، وجهل مؤسسي متمدد هنا. رغم أن الغابات المحجوزة لا تغطي عندنا سوى 6% من مساحة السودان، مقارنة بـ 44% في فيتنام، في وقت يفترض فيه أن يبلغ الهدف الاستراتيجي للحجز عندنا 20% من المساحة الكلية للبلاد.
• زعم الوالي أن أشجار السنط تُسبب الإصابة بمرض المايستوما، ادعاءٌ نقضه سلفه بنفسه، حين أكد في أكثر من منبر صحفي عام (شبكة الشروق، 22 يناير 2017؛ صحيفة الصحافة، 25 سبتمبر 2017) أن الولاية كانت على وشك إعلان خلوها من المرض في ذلك العام، رغم بقاء غابات السنط على حالها. وهو ما يترك للقارئ أن يستنتج بنفسه طبيعة العلاقة بين السنط والمرض – أو بالأحرى، انعدامها.
• وأما قوله إن السنط بلا “قيمة مضافة”، فتفنده شهادة رئيس رابطة الرعاة بالولاية ذاتها، الذي أكد أن الولاية كانت قاب قوسين أو أدنى من فقدان ثروتها الحيوانية في عام 1986، لولا ثمرة السنط – القَرَضَة- والتي هي جزء من الشجرة فما بالك بالشجرة بأكملها.
• ومن أراد سندًا علميًّا، فليُراجع دراسة د. هدى عبد الوهاب شعراوي، المنشورة في العدد (14) من مجلة الغابات المدارية الصادرة عن جامعة هلسنكي، بعنوان: “التقييم الاجتماعي والاقتصادي لبدائل استخدامات الأراضي في حوض النيل الأزرق الفيضي بالسودان”، والتي خلُصت إلى تفوّق غابات السنط النيلية على سائر أنماط استخدام الأراضي الأخرى في هذه المنطقة.
• مع ذلك، لا يزال التعدي على الغابات مستمرًا. ففي مشهد يجسّد تداخل المصالح الضيقة بالقرارات المصيرية، انتهز بعض تجار الموز في ولاية سنار مرور رئيس الجمهورية السابق عائدًا من النيل الأزرق إلى الخرطوم، فنظموا احتفالًا في طريق عودته داخل إحدى الغابات النيلية، دعا خلاله وزير الزراعة الولائي – على رؤوس الأشهاد – رأس الدولة إلى ما لسماه “بستنة الغابات” أو بالأحرى “بشتنة الغابات”، في تجاوزٍ فادح لصلاحياته، وسلوك لا يليق بمسؤول تنفيذي يفترض فيه احترام الأطر المؤسسية، لا أن يتصرف وكأنه شيخ حلةٍ يوزع الأرض بالمزاج.
• وتجلت نزعة الاستحواذ أيضا بوضوح حين سارعت الولاية إلى مسح هذه الأراضي المحجوزة اتحاديًا، ولم تنتظر صدور قرار رسمي بفك الحجز ينشر في الجريدة الرسمية، كما يقتضيه قانون الغابات، بل تجاوزت بذلك نصًا دستوريًا صريحًا يحظر على السلطات الولائية التعدي على اختصاصات الحكومة الاتحادية.
• ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه: أيهما يسمو في بلادنا؟ التوجيه الرئاسي أم حكم القانون؟ القرار التنفيذي أم نص الدستور؟ أم أن كل شيء قابل للمحو بكلمة تقال في احتفال عابر، أو تصريح يطلق من منبر عام؟
• ما غاب عن حكومة ولاية سنار هو أن صدور قرار بفك الحجز – إن تم – لا يعني بالضرورة انتقال ملكية هذه الأراضي تلقائيًا إلى سلطتها الولائية؛ فثمّة حقوقًا تاريخية لأفراد وقبائل كانت هذه الأراضي تتبع لهم قبل حجزها، وتظل تلك الحقوق محفوظة بموجب إجراءات قضائية تضمنها لهم لحظة رفع الحجز.
• ما فات على حكومة الولاية أيضًا، أن فك حجز الغابات النيلية – حتى إن تم – لا يبرّر تحويل هذا النظام البيئي إلى مزارع موز؛ إذ إن قانون حماية البيئة لا يجيز ذلك، ويلزم بإجراء دراسة للأثر البيئي المسبق قبل الإقدام على أي تغيير في استخدام الأرض.
• أما الخطر الأكبر، فهو أن يتحول ما هو ملك عام مشاع إلى ملكية خاصة محدودة، تقصي المجتمعات المحلية المجاورة، وتفقدها مصدر عيشها، لصالح زراعة هشة، لا تملك القدرة على حماية ضفافه من الهدام.
• إن بقاء غابات السنط النيلية على ضفتي النيل ليس خيارًا بيئيًا فحسب، بل ضرورة حياتية. فبأي دفوعٍ يبرر دعاة تدمير الغابات النيلية من تجار الموز دعوتهم؟ وعلى أي أساس يستبدل نظام بيئي متجذر بزراعة لا تقوى على الصمود أمام أول فيضان؟
• والمثير للتأمل أن من نادوا بإبادة الغابات واستبدالها بالموز في منبر “نقاشات الوعي الإداري” – وإن بدوا أفرادًا يعبّرون عن آراء شخصية – يلتقون ذهنيًا، في الجوهر، مع التوجه الرسمي الذي عبر عنه أحد ولاة سنار، حين دعا صراحة إلى تحويل الغابات إلى مزارع موز ومانجو. ولم يقف عند حدود ولايته، بل ذهب أبعد من ذلك، مشجّعًا بقية الولايات الممتدة على ضفاف النيل الأزرق أن تحذو ذات النهج، في محاولة لتوسيع رقعة هذا التوجه وتكريسه كخيار تنموي بديل، ولو على حساب الغطاء الغابي ومصالح المجتمعات المحلية.
• هذا التقاطع – غير المنسّق ظاهريًا – يكشف عن نمط تفكير متصاعد، يتعامل مع الأنظمة البيئية كعقبة أمام مشاريع سريعة العائد، بلا حساب للعواقب.
• هؤلاء يظنون أن مجرد الزراعة كافٍ لاختراق الأسواق، دون إدراك لسلاسل القيمة أو استيعاب لمتطلبات السوق العالمي الذي تتحكم فيه دول راسخة كالإكوادور والهند ومصر. هذه مقامرة واضحة بمورد بيئي أصيل لصالح مشروع هشّ، يفتقر إلى أبسط مقومات النجاح.
• إنّ ما يجري ليس مجرد خلاف حول استخدامات الأرض، بل هو صراع على معنى التنمية نفسها: أهي إحلال سريع لزراعة هشة مكان غطاء غابي ضارب في الجذور؟ أم بناءٌ تراكمي يراعي البيئة، ويصون إرث الناس، ويضع في الاعتبار مصالح الأجيال القادمة؟
• إن غابات السنط النيلية ليست مجرد أشجار، بل منظومة حياة، ونسيج ثقافي واجتماعي واقتصادي ضامنٌ لتوازنات بيئية هشّة أصلًا. ومن العبث – بل من الجرم البيئي والسياسي – أن يضحى بهذا المورد العام الحيوي على مذبح أطماع قصيرة النظر، أو توجّهات تتخفى في شعارات التنمية بينما تنقضّ على أصول لا تعوض.
• وإذا كانت الأصوات التي تدعو إلى “بشتنة” الغابات قد التقت مع توجهات رسمية في لحظة عابرة، فإن مسؤولية المجتمع الأكاديمي، والناشطين البيئيين، وصناع القرار المستنيرين، أن يعيدوا توجيه البوصلة نحو خيار عقلاني مستدام، يعترف بالسنط لا كعقبة، بل كأصل من أصول السيادة البيئية، وركيزة في بناء تنمية لا تفصل بين الإنسان وأرضه. فليس كل ما يزرع يثمر، وليس كل ما يسوّق يصدر، ولكن ما يستأصل لا يعود.
• أما وقد قلنا ما رأيناه حقًّا، فليشهد علينا التاريخ والضمير البيئي، إن خانت السياسات الحاضرَ وتنكرت للمستقبل.
أمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.
عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع ايكوسودان نت موسسة السموءل حسن بشري بدوي موقع لخدمة الإعلام التنموي والاقتصاد الرقمي

شاهد أيضاً

يوفر مليارات الدولارات.. قمح خارق يُحدث ثورة في الزراعة العالمية

رضا أبوالعينين البيان طور علماء من جامعة كاليفورنيا في ديفيس نوعا جديدا من القمح قادرا …

البيئة بيتنا