• منذ استقلال السودان عام 1956، ظلت البيئة قضية هامشية، تذكر في الهوامش وتستبعد عند القرار، بلا جهة سياسية تتبناها بجدية. وكأنها عبءٌ لا حق، أو ترف لا ضرورة.
• ولأن الدستور يعكس توجهات الدولة والتزاماتها، فإن غياب البيئة من نصوصه يعني تهميشها في السياسات الفعلية.
• في هذا المقال، نتتبع موقع البيئة في الدساتير السودانية المتعاقبة، لنفهم: هل نظر إليها كحقوق تصان أم موارد تستغل؟ وهل آن الأوان لتحولها إلى أولوية دستورية لا تختزل في الشعارات؟
• لم يتضمن أول دستور للسودان بعد الاستقلال أي إشارات واضحة لمسؤولية الدولة تجاه البيئة أو الموارد الطبيعية. فقد انصب التركيز آنذاك على بناء الدولة الوطنية، وتثبيت السيادة، وترتيب السلطات، بينما غاب البعد البيئي تمامًا، رغم أنه يمثل أحد ركائز الاقتصاد التقليدي في البلاد، القائم على الزراعة، والغابات، والمياه والتربة والرعي.
• الدساتير التي أعقبت دستور 1956 اتسمت بحضور شكلي للبيئة وتصاعد بطيء في الاهتمام بها.
• دستور 1973 لم يتضمن نصوصًا صريحة تعالج قضايا البيئة، بل اكتفى بإشارات غامضة جاءت في سياق الحديث عن التخطيط التنموي العام، دون أن تترجم إلى التزامات واضحة أو حماية فعلية للموارد.
• أما دستور 1998 فقد أشار إلى “حماية البيئة” ضمن مسؤوليات الدولة، لكنه لم يقدّم أكثر من صياغة عامة، بلا آليات تنفيذية واضحة، ولا اعتراف بحقوق بيئية للمواطنين، فبقي أقرب إلى إعلان نوايا لا إلى تعهد دستوري ملزم. وفي جانب الغابات والأراضي تضمن الدستور مادة تتعلق فقط بقسمة الثروة والسلطة.
• شكل الدستور الانتقالي لعام 2005، واتفاقية نيفاشا، أول منعرج سياسي تدرج فيه الموارد الطبيعية ضمن أجندة التفاوض. لكن ذلك لم يكن بدافع بيئي، بل بدافع اقتسام السلطة والثروة، حيث ظهرت البيئة كغنيمة توزع ضمن منطق المحاصصة، لا كقضية حقوق أو عدالة بيئية.
• تضمّن الفصل الثامن من الدستور الانتقالي موادًا حول البيئة، أقر فيها بحق الأقاليم في التمتع بمواردها. لكن هذه النصوص افتقرت إلى التوازن بين الاستغلال والاستدامة، وغلب عليها الطابع الإداري لا البيئي.
• في اتفاق جوبا للسلام (2020)، ظهرت البيئة للمرة الأولى كأحد أسباب النزاع، وتم الاعتراف بأن سوء إدارة الموارد كان من جذور الحرب، خصوصًا في دارفور والنيل الأزرق.
• وأشار الاتفاق إلى “العدالة البيئية”، والتزام الدولة بتأهيل المناطق المتأثرة بيئيًا، وسن تشريعات تحمي الموارد وتراعي حقوق الأجيال القادمة.
• لكن كل ذلك بقي حبرًا على ورق، دون ترجمة إلى سياسات فعلية أو مؤسسات فاعلة، بل غابت المأسسة، وتلاشت المتابعة.
• رغم التدرج من الغياب بين 1956 و1973، إلى الإشارات الرمزية بين 1973 و1998، ثم إدراج البيئة كأداة لتقاسم الثروة في 2005، والاعتراف بدورها في النزاع عام 2020، لم يتحول هذا المسار إلى إصلاحات حقيقية.
• ورغم الوعود الدستورية، تعاني البيئة في السودان من مشاكل كبيره مثل التصحر، وإزالة الغابات خاصة في مناطق النزاع، وتلوث المياه والتربة.
• تتفاقم الأزمة بسبب قرارات تسمح بالتعدين والزراعة المكثفة بدون حماية كافية.
• بالإضافة لذلك، يؤثر التغير المناخي بموجات جفاف وفيضانات تهدد حياة الناس والموارد، مما يجعل حماية البيئة أمرًا عاجلًا لا يمكن تأجيله.
• فالبيئة في السودان لا تزال قضية بلا ظهير سياسي يتبناها، ولا جهة سيادية تهتم بها، ووزارة البيئة – إن وجدت – تبقى هامشية، تتنازع صلاحياتها مع وزارات الزراعة والطاقة، وغالبًا ما تستخدم واجهة لتبرير قرارات تضر بالبيئة.
• في دولة تتبدل دساتيرها دون أن يتغير نهجها تجاه البيئة، لا يمكن تحقيق إصلاح بيئي ما لم يصبح الضمير جزءًا من الدستور، وما لم تفهم الغابات والمياه والتربة كحقوق غير قابلة للتفريط، لا كموارد للنهب.
• المأمول من حكومة الأمل ورئيس وزرائها د. كامل إدريس أن يحول ما تعهد به في “السودان 2025” من رؤى بيئية إلى أفعال، فالبيئة لم تعد تحتمل الانتظار، والسياسة اليوم إما أن تنقذها، أو تسهم في فنائها.
• ينادي البيئيون بصوت لا ينقطع، يذكرون بالبيئة والغابات والمياه والتربة، وكأنهم يصرخون في فراغ لا هم يسمعون.
• قالوا ليعقوب عليه السلام: ﴿تاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضًا أو تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾.
• قَالَ ﴿إِنِّي أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾،
• وقال ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
• فلا عزاء للبيئيين إن ظلّت السياسات تتجاهل، والقرارات تدمر، والدساتير تخلو من الاعتراف.
• لا إصلاح بلا ضمير. لكن لا يأس، فعلى البيئيين أن يتمسكوا بالأمل، فهل تنصت حكومة الأمل لصوت لم يخفت، وإن خذل؟
آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني
ايكوسودان نت التنمية مستقبلنا