أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
كاتب راي في مجال البئة والغابات

غابة السنط: بين قيمة الجمال وثمن المنفعة

تأملات فلسفية في ضوء دراسة هدى شعراوي لغابة السنط
• ما هو الجمال؟ وهل هو في ذات الشيء أم في عين الناظر؟ ولماذا يكون الجميل جميلاً؟ أسئلة حيرت الفلاسفة والمفكرين، وظلت بلا إجابة قاطعة.
• يرى كثير من الفلاسفة أن الجمال لا يُعرّف بدقة، بل يُدرك فيما يُوصف بأنه جميل، دون اعتبار للمنفعة.
• فتقديره يبقى نسبيًا، يختلف باختلاف الأفراد والثقافات والشعوب ، ويتأرجح بين كونه قيمة موضوعية قائمة بذاتها، وكونه انعكاسًا لذائقة الفرد وإدراكه.
• ففي التصوف، ينبع الجمال من صفاء النفس لا من منطق العقل، ويُدرك بالذوق لا بالبرهان.
• بينما عند العلماء التجريبيين، يُقاس الجمال بمنهجية محددة، ترتكز على ما يُسمّى بـ’الكم الإعجابي’، أي الجزء الذي نال إعجاب الأغلبية.
• في المقابل، لا يرى الشعراء حاجة إلى معيار أو برهان لإدراك الجمال، إذ يكفي الشعور بالارتياح أو السرور أو النشوة، ليوقن المرء بأنه أمام قيمة جمالية حقيقية.
• ويتفاوت الناس في تقديرهم للجمال؛ فشجرة واحدة قد تُبهر البعض حتى تدمع أعينهم، بينما لا يراها آخرون سوى كتلة خضراء تعترض الطريق.
• بل إنّ من الناس من لا يرى الجمال إلا مقرونًا بالمنفعة، وكأن ما لا ينفع لا يُعجب.
• وقد تجلّى هذا التباين في نظرة الناس للجمال بوضوح في قضية غابة السنط بالخرطوم، حيث اصطدم الجمال الطبيعي بحسابات المنفعة الاقتصادية.
• في السودان، وتحديداً بالخرطوم، وقفت غابة السنط شاهدة على هذا النزاع بين الجمال والمنفعة.
• ففي العام 1999، وصف مركز التنمية الحضرية والريفية هذه الغابة بأنها “لا تملك نفعاً سوى الحفاظ على الموقع بانتظار مخطط عمراني مستقبلي”.
• لكن الدكتورة الراحلة هدى عبد الوهاب شعراوي، الأستاذة بكلية الغابات، نظرت إلى الغابة بعين مختلفة، برفقة أحد طلابها، حيث أجرت دراسة لتحديد قيمة المتعة الترفيهية التي توفرها الغابة، مستخدمة نظام تكلفة انتقال الفرد بين موقع السكن وموقع الغابة.
• قدرت الدراسة متوسط المتعة الترفيهية للزيارة الواحدة للغابة بنحو 12 ألف جنيه، وفقاً لمعايير زمن الدراسة.
• ذكر أن هذا النظام في تقدير القيمة الترفيهية يعتمد على دخل الزائر. وغالبية الزوار من ذوي الدخل المحدود، ممن لا تتاح لهم بدائل ترفيهية خارج الغابة.
• واعتمدت الدراسة في تقديرها على معدل زيارتين شهريًا للفرد خلال موسم استقبال الزوار، ستة أشهر تقريباً في العام، وعلى بُعد السكن كذلك.
• لكن بما أن غالبية الزوار يقطنون قرب الغابة وتكلفة انتقالهم شبه معدومة، جاءت القيمة الترفيهية المحسوبة أقل كثيرًا من القيمة الحقيقية التي تمثلها الغابة فعليًا.
• من اللافت أن الدراسة لم تتناول الوظائف الأخرى للغابة، كمحمية للطيور، ومستودع للتنوع الأحيائي وللكربون، ومرشح طبيعي للهواء، ومصدر للخدمات البيئية والجمالية، الخ. وهو ما يعني أن القيمة الحقيقية للغابة، لو أُخذت هذه الجوانب في الاعتبار، كانت ستبلغ أرقاماً فلكية.
• ورغم أن هذه القيمة لا تُعبّر عن كل أوجه الجمال ووظائف الغابة، فإنها تُمثّل محاولة جادة لوضع تقدير مادي لما لا يُقدّر بثمن.
• إن النظرة الاقتصادية الضيقة، التي اختزلت إسهام غابات السودان كلها في الناتج المحلي بنسبة 3.3%، تتجاهل ما هو أبعد من الحسابات المحاسبية: قيمة الخدمات البيئية والروحية، وقيمة الجمال، ومتعة الإنسان في حضرة الأشجار، بمعايير المحاسبة الخضراء.
• ورغم ما أثبتته دراسة هدى شعراوي من قيمة جمالية وترفيهية لغابة السنط، إلا أن هذا الجمال يتهدده اليوم خطر القطع الجائر، في مشهد يعيد الصراع القديم بين المنفعة والجمال.
• فالمنشار لا يرى في الغابة سوى أخشاب، متجاهلاً ما تمثّله من روح وهوية ومتنفس. إنها ليست مجرد شجر يُقطع، بل تراث يُغتال في وضح النهار.
• ختاماً، الجمال لا ينتظر مخططاً عمرانياً، ولا يُقاس بالمنفعة وحدها.
• وغابة السنط ليست مجرد أرض بانتظار الاستثمار، بل تراث حيّ وجمال مشاع، لا يدركه إلا من “تجلى له الله” وهو يتمتم أمام شجرة: آه.

ورحم الله هدى شعراوي، فقد أبصرت جمال الغابة حين أعرض عنه كثيرون.

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع ايكوسودان نت موسسة السموءل حسن بشري بدوي موقع لخدمة الإعلام التنموي والاقتصاد الرقمي

شاهد أيضاً

يوفر مليارات الدولارات.. قمح خارق يُحدث ثورة في الزراعة العالمية

رضا أبوالعينين البيان طور علماء من جامعة كاليفورنيا في ديفيس نوعا جديدا من القمح قادرا …

البيئة بيتنا