أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
كاتب راي في مجال البئة والغابات

الثورة موازين.. ماها شعار وماها نار

• نقل الإمام ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله، قوله: “إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله، ثم يجئ إلى إخوانه فيرون أثر ذلك، وإنّي لأجد أثر الذنب في خلق دابتي وسلوك أهلي”.
• ذلك هو ميزان أهل السرِّ والباطن، في قياس أحوال النفس وخطراتها، وانعكاساتها الخفيّة التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر.
• وإذا كان للباطن ميزانه الروحي، فإن للظاهر موازين مادية تقوم على الجسد، وتستمد مشروعيتها من السلطة.
• فمن أقدم وحدات القياس — كالقدم، والبوصة، والياردة — ما استمد حرفيًا من جسد الملك، ليغدو جسده معيارًا للرعية، ومقياسًا للمعايير.
• فالياردة كانت تقاس بالمسافة بين أنف الملك إدغار، ملك إنجلترا، وطرف إصبعه الممدود. أما البوصة، فبطول سلاميةٍ من إبهامه، والقدم بطبع قدم الملك جون على الأرض المبتلة.
• ونظراً لمحدودية هذه المرجعيات في تحقيق دقة القياسات المطلوبة، لجأ الناس إلى عالم الزراعة، فاستخدمت حبة الشعير كوحدة قياس (تعادل نحو ثلث بوصة)، ثم بذرة الخشخاش كوحدة أدق (تقارب سدس بوصة).
• لكن ما إن اندلعت الثورة الفرنسية، حتى انقلبت المعايير رأسًا على عقب، فلم يتغيّر نظام الحكم فحسب، بل تبدلت أيضًا وحدات القياس.
• فجاء المتر، لا مشتقًّا من جسد ملكٍ أو من سلطة بشرية، بل من مقياسٍ طبيعي: جزءٌ واحد من عشرة ملايين جزء من المسافة بين القطب الشمالي وخط الاستواء، مرورًا بالعاصمة باريس.
• هكذا عرّف الثوّار المتر، وهكذا أرادوه: معيارًا حياديًّا، لا سلطان لأحد عليه. وكثمرة لتلك الروح الجديدة، وإيذانًا ببدء حقبة جديدة من التفكير العقلاني.
• فالثورات الحقّة لا تكتفي بتغيير الحُكّام، ولا تنحصر في الانقلاب على الأنظمة، بل تمضي أعمق من ذلك: نحو إعادة تشكيل معايير التفكير، وأدوات القياس، والموازين التي يُبنى بها الوعي وتُقاس بها الحياة.
• وكما غيّرت الثورة الفرنسية موازين الطول والقياس، فإن كل ثورةٍ حقيقية تعيد تعريف المعايير التي تبني بها المجتمعات حاضرها، وتستشرف بها مستقبلها.
• الثورة ليست مجرد استبدال وجوه، “ما هي بنار وشعار” كما يُروَّج لها في الأناشيد، بل ولادة وعي جديد، أولًا في بنية التفكير، ثم في أنماط السلوك وكافة مجالات الحياة.
• أن يقاس الجهد السياسي بنوعية الأثر لا بكمية الوعود، ويوزن التعليم بعمق الفهم لا بكم الشهادات، وتقاس العدال بموازين القانون لا بميزان الانتماء.
• ألا تغفل القيمة الحقيقية للأشياء: كأن نقيم الغابة مثلاً لا بعدد أشجارها وكمية أخشابها فحسب بل أيضاً بما توفره من خدمات بيئية غير ملموسة لكنها ضرورية لصحة الإنسان ورفاهيته، حتي وإن لم تقم وفق أسعار السوق.
• تتطلّب الثورة أدوات وموازين جديدة لتقييم الخدمات البيئية وإدماجها في السياسات:
1) كأن يبدي الأفراد، استعدادًا ماليًّا للدفع من أجل الحفاظ على بيئة سليمة في ظل وجود غابة، وهو ما يعرف في الاقتصاد بميزان “الاستعداد للدفع” (Willingness to Pay).
2) إجراء عملية تقييم شاملة للتبعات البيئية المحتملة لمشروع ما قبل الشروع في تنفيذه، بهدف الحد من الآثار السلبية وتعزيز الفوائد البيئية الممكنة في حالة إزالة الغابة. هذا ما يُعرف في الاقتصاد بميزان تحليل الأثر البيئي Environmental Impact Assessment (EIA.
3) تقدير ما يلزم من موارد أو تدخلات لتعويض الخدمات البيئية المفقودة في حالة إزالة غابة أو نظام بيئي طبيعي، ويشمل ذلك – وغيره كثير – تنقية الهواء، وتثبيت التربة، وتنظيم المناخ. هذا الميزان يعرف في الاقتصاد بـ “كلفة الاستبدال” أو Replacement Cost.
• أن نحسب بدقة ما قد نخسره من منافع وخدمات بيئية في مقابل مكاسب قصيرة الأجل، قبل الإقدام على استبدال مشروع تنمويّ قد يبدو مفيدًا في ظاهره، لكنه مدمِّر بيئيًا في جوهره. على نحو الدراسة التي أجرتها دكتورة هدى عبد الوهاب شعراوي رحمها الله، المنشورة في العدد (14) من مجلة الغابات المدارية الصادرة عن جامعة هلسنكي، والتي خلُصت فيها إلى تفوّق غابات السنط النيلية في حوض النيل الأزرق الفيضي على سائر أنماط استخدام الأراضي الأخرى بما في ذلك الموز ذو الطعم اللذيذ والقيمة السوقية العالية. فهذا ما يعرف في الاقتصاد بميزان “التكلفة البديلة” أو Opportunity Cost.
• هذه هي نوعية الموازين التي ينبغي علينا تبنّيها إن كنا ثواراً حقيقيين.
• فالثورة التي لا تمس الموازين، تبقى معلقة في الشعارات، لا تهز جذور الواقع.
• فلتكن موازيننا ثوريّة في العمق، لا في الشعارات.

آمالي في حسن الخلاص؛ وتقديري العميق.

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع ايكوسودان نت موسسة السموءل حسن بشري بدوي موقع لخدمة الإعلام التنموي والاقتصاد الرقمي

شاهد أيضاً

يوفر مليارات الدولارات.. قمح خارق يُحدث ثورة في الزراعة العالمية

رضا أبوالعينين البيان طور علماء من جامعة كاليفورنيا في ديفيس نوعا جديدا من القمح قادرا …

البيئة بيتنا