أخبار عاجلة

الرقي في زمن الوقاحة

بقلم: غادة حسين موسي

أكتب عندما يمتلئ عمقي بالمعاني

مقدمة
في زمنٍ باتت فيه الوقاحة تُفهم على أنها قوة، والهدوء يُفسَّر على أنه ضعف، أصبح الرقي تحديًا، لا مجرد سلوك. لم نعد نعيش في عالم يحتفي بالمهذّبين، بل في عالم يصفق لمن يصرخ أكثر، ويبرر العدوانية باسم “الحرية”. وفي هذا الزحام، يبرز الرقي كوقفة نادرة، كعلامة اختلاف في زمنٍ ضاع فيه التوازن…

زمن الوقاحة

لم يعد الصوت العالي مدعاة للاستغراب، بل أصبح رمزًا لما يسمى اليوم بـ”الشخصية القوية”. يُسخر من المهذّب، ويُتّهم الصامت، ويُهاجم الصبور. الوقاحة نالت مناحي متعددة: في العمل، في العلاقات، وحتى في الخطاب الإعلامي. نشهد رؤساء يتفاخرون بوقاحتهم، ومشاهير يكتسبون المتابعين كلما زادت إساءاتهم. أما الرقي، فبات عبئًا على صاحبه، كأنه ارتدى زِيًّا لا يُناسب هذا الزمن…

حين يصبح الاحترام ضعفًا

يُساء فهم الاحترام اليوم على أنه خنوع، ويُرى المهذب كمن لا يعرف الدفاع عن نفسه. .. يقال عن الصامت إنه ضعيف، وعن المتسامح إنه جبان. بينما الحقيقة أن الاحترام، حين ينبع من قوة داخلية، هو أرقى درجات الثبات. وهو أن تقول “لا” دون صراخ، وأن تختار الصمت دون أن تُهزَم. وما أكثر المواقف التي نختار فيها الصبر، ليس لأننا لا نعرف الرد، بل لأننا نعرف أن الرد أحيانًا يُسقِطنا لمستويات لا نريدها.

الرقي لا يعني المسكنة

أن تكون راقيًا لا يعني أن تكون ساذجًا. الرقي ليس تهاونًا، بل هو وعي متى تتقدم ومتى تنسحب. إن التفريق بين الرقي والمسكنة ضرورة، لأن بعض الناس يُحسنون استغلال المهذّبين. لكن الراقي يعرف متى يضع الحد، ومتى يُعيد ترتيب المسافات. من حقك أن تكون لطيفًا، لكن ليس على حساب كرامتك…

الصمت الذي يؤدّب

الصمت أحيانًا أبلغ من أي كلام، خاصة عندما يُساء فهمك عمدًا. الصمت يؤدب لأنه يجعل الآخر يرى نفسه في مرآة الصمت. ما من شخص أساء، وصمت أمامه الطرف الآخر، إلا وبدأ بمراجعة نفسه سرًا. لذلك لا تستهن بصمتك، فقد يكون أقوى من ألف كلمة…

حدود الرقي وحدودنا مع الناس

الرقي لا يعني أن نكون متاحين للجميع طوال الوقت. الاحترام لا يعني إلغاء الذات. وضع الحدود لا يتعارض مع الأخلاق، بل هو ما يحميها. أحيانًا، يجب أن نبتعد بصمت، أن نغلق أبوابًا كنا نطرقها كل مرة، فقط لنحافظ على ذواتنا. العلاقات التي تُستهلكنا ليست دليلًا على حب الطرف الآخر، بل على عجزه عن تقديرنا….

حين يربّينا الألم بصمت

أكثر ما يُهذب الإنسان هو الألم. كم من مرة خرجنا من مواقف موجعة، بأرواح أعمق وقلوب أهدأ. الألم لا يعلمنا القسوة، بل يعلمنا أن ننتقي ردودنا، أن نُعيد بناء أنفسنا دون ضوضاء. كل موقف تحملناه بصبر، كل خيبة واجهناها بصمت، كانت بمثابة مدرسة داخلية للرقي…

الكرامة لا ترتفع بالصوت بل بالموقف

الكرامة الحقيقية لا تحتاج إلى صراخ، بل إلى موقف. ربما لا ترد على الإساءة، لكنك تسحب نفسك من علاقة غير متوازنة. ربما لا تصرخ لتثبت حقك، لكنك تنسحب من بيئة لا تحترمك. الكرامة لا تُثبت بالكلام، بل بالسلوك…

تربية الروح في مواجهة الوقاحة

الرقي هو تمرين روحي طويل. كلما ازدادت وقاحة من حولك، ازدادت حاجتك لتأديب روحك بالصبر. كيف ترد دون أن تنفعل؟ كيف تعترض دون أن تسيء؟ كيف تحمي نفسك دون أن تتشوه؟ هذه الأسئلة تربي فينا اتزانًا عميقًا، لا يأتي من الكتب، بل من التجربة…

لأنني اخترت الرقي، فأنا مختلف

الاختلاف قدر من يختار الرقي. في عالم يحتفي بالضجيج، يبدو الهادئ غريبًا. لكن هذا الغريب هو من يبقى في الذاكرة. الراقي لا يسعى لإثبات نفسه، لأنه واثق. لا يركض خلف رضا الناس، لأنه يعرف أن القبول لا يُشترى. الرقي يجعل صاحبه مختلفًا، لا بالصوت، بل بالحضور…

الرد الهادئ أقوى من الصراخ

الكلمة المهذبة لا تعني الضعف، بل الذكاء. الرد الهادئ يُربك، لأنه لا يُنتظر. حين ترد بابتسامة، أو بجملة موزونة، فأنت تمارس أرقى أشكال الهيبة. في عالم يرفع الصوت قبل الحجة، يصبح الرد الهادئ سلاحًا غير متوقع…

حين يصبح الصمت لغة كرامة

ليس كل سكوت ضعف. أحيانًا، الصمت هو رسالة لا يفهمها إلا من يملك الوعي. أن تصمت، وأنت قادر على الرد، هو قمة السيطرة على الذات. في بعض المواقف، يكون صمتك هو ما يوقظ الآخر، لأن الصمت هنا يوجع أكثر من أي كلمة.

الرقي ليس ضعفًا، بل أعلى درجات القوة

الرقي لا يُمارَس إلا من يملك نفسه. أن ترد وأنت هادئ، أن تعترض وأنت موزون، أن تغضب دون أن تجرح… كل هذا يحتاج لقوة نفسية عظيمة. الراقي ليس خاليًا من المشاعر، لكنه قادر على توجيهها بما لا يُهين الآخرين ولا يُسقط كرامته.

حين يتحوّل الرقي إلى عزلة نبيلة

كثيرون من الراقين انتهى بهم المطاف في عزلة، لا لأنهم لا يحبون الناس، بل لأنهم لم يعودوا يحتملون الزيف… العزلة هنا ليست هروبًا، بل انتقاء. أن تختار نفسك، أن تعيش في هدوء، أن لا تبرر، أن لا تفسر… هذه هي العزلة النبيلة التي لا يُدركها إلا من تعب من التفسير.

خاتمة:
الرقي في هذا الزمن مقاومة. في عالم يُكافئ الوقاحة، ويستهين بالهدوء، يصبح الرقي صوتًا هادئًا في عاصفة عالية. هو ليس ترفًا، بل اختيارًا واعيًا، لا يسلكه إلا من أدرك أن الكلمة مسؤولية، وأن الكرامة لا تحتاج ضجيجًا، بل ثباتًا.

ولأننا اخترنا الرقي، اخترنا أن نكون مختلفين… لا بصوتنا، بل بموقفنا. لا بردنا، بل بصمتنا. لا بانفعالنا، بل بوعينا.

عن المحرر العام

موقع ايكوسودان نت موسسة السموءل حسن بشري بدوي موقع لخدمة الإعلام التنموي والاقتصاد الرقمي

شاهد أيضاً

يوفر مليارات الدولارات.. قمح خارق يُحدث ثورة في الزراعة العالمية

رضا أبوالعينين البيان طور علماء من جامعة كاليفورنيا في ديفيس نوعا جديدا من القمح قادرا …

البيئة بيتنا