رغم ما يزخر به السودان من ثروات طبيعية وبشرية، يظل من بين الدول الأقل تقدمًا في مؤشرات التنمية المستدامة. هذا التناقض الصارخ بين الإمكانيات المتاحة والواقع التنموي المتعثر يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين الموارد والتنمية، ويكشف عن خلل عميق في منظومة التفكير والتخطيط الوطني.
*وفرة بلا إنتاجية: إشكالية عقلية الوفرة*
يمتلك السودان موارد طبيعية هائلة تشمل أراضي زراعية خصبة، مياهًا وفيرة، ثروات معدنية ضخمة، وتنوعًا بيئيًا ومناخيًا نادرًا. يضاف إلى ذلك موارد غير مادية لا تقل أهمية، مثل رأس المال البشري، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والإرث الثقافي الغني. ومع ذلك، لم تُترجم هذه الوفرة إلى تنمية حقيقية أو رفاه اقتصادي ملموس.
السبب الجوهري يكمن في ما يمكن تسميته بـ”عقلية الوفرة”، وهي ذهنية تتعامل مع الموارد باعتبارها ضمانًا تلقائيًا للتقدم، دون الحاجة إلى تطوير الكفاءة أو تعزيز الإنتاجية. هذه العقلية أدت إلى:
– غياب التخطيط الاستراتيجي القائم على البيانات.
– ضعف استدامة المشاريع التنموية.
– الاعتماد على الخطاب العاطفي والبطولات التاريخية بدلًا من الرؤية المستقبلية.
– إهمال الاستثمار في المعرفة، والمهارات، والبحث العلمي.
*التخطيط التقليدي: إعادة إنتاج الفشل*
غالبًا ما يتسم التخطيط في السودان بالتكرار والاجترار، حيث تُعاد صياغة مشاريع سابقة دون مراجعة علمية أو تقييم للأثر. هذا النمط من التخطيط لا يراعي المتغيرات ولا يستفيد من الدروس المستخلصة، مما يؤدي إلى تكرار الأخطاء وتبديد الموارد.
في ظل غياب ثقافة التقييم والتجريب، تصبح الخطط مجرد وثائق شكلية، لا ترتبط بالواقع ولا تستجيب لتحدياته المتغيرة، وهو ما يفسر تعثر العديد من المبادرات التنموية رغم توفر التمويل والدعم الفني في مراحلها الأولى.
*دروس من جائزة نوبل للاقتصاد 2025*
في خطوة لافتة، منحت جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2025 لباحث ركّز على أهمية “ثقافة التجريب وتحليل الفشل” كمدخل أساسي للتنمية. وأكد أن الدول التي حققت قفزات تنموية لم تعتمد فقط على التخطيط، بل على الجرأة في التجريب، والانفتاح على الخطأ، والقدرة على التعلم المستمر.
هذه الرؤية تتقاطع مع ما يفتقر إليه السودان: الاستعداد لتجريب نماذج جديدة، وتجاوز التعلق بالماضي، وبناء مؤسسات قادرة على التعلم والتكيف.
*توصيات استراتيجية*
لتحقيق تحول حقيقي في مسار التنمية، لا بد من إعادة النظر في المنهجية السائدة، من خلال:
1. *إعادة صياغة العقلية الوطنية:* التحول من منطق الوفرة إلى منطق الكفاءة، حيث تُقاس القيمة بقدرة المورد على توليد أثر مستدام، لا بمجرد توفره.
2. *اعتماد نهج التجريب والتقييم:* تشجيع المبادرات الصغيرة، واختبار السياسات قبل تعميمها، وتبني ثقافة الاعتراف بالفشل كجزء من عملية التعلم.
3. *الاستفادة من التجارب الدولية:* دراسة نماذج الدول التي نجحت في تحويل مواردها إلى قيمة مضافة، مع تكييفها للسياق السوداني.
4. *بناء قاعدة بيانات قومية للموارد:* توثيق شامل للموارد الطبيعية والبشرية، وربطها بمنظومة البحث العلمي، لتوجيه الاستثمار والتخطيط على أسس معرفية دقيقة.
*ختامًا*
إن الوفرة ليست ضمانًا للتقدم، بل قد تتحول إلى نقمة إذا لم تُدار بعقلية إنتاجية. السودان لا يحتاج إلى موارد إضافية بقدر ما يحتاج إلى *إرادة واعية، وتخطيط مرن، وثقافة مؤسسية تؤمن بالتجريب والتعلم*. فالتنمية ليست نتاج ما نملك، بل كيف نُحسن استخدامه.
د. محمد سعد علي بيومي
خبير في التنمية
+249912811523
ايكوسودان نت التنمية مستقبلنا