أخبار عاجلة

البروفيسور سيدة محجوب محمد إبراهيم… سيدة الغابات السودانية ومشعل البذرة الأولى

طلعت دفع الله عبد الماجد

*1: حين تُزهر البذرة امرأة
في مسيرة العلم، تظهر بين حين وآخر شخصيات نادرة، تترك وراءها أثرًا لا يُمحى، لأن حضورها كان أكبر من المهنة، وأصدق من الطموح.
من هؤلاء الوجوه المضيئة تبرز البروفيسور سيدة محجوب محمد إبراهيم، التي حملت على عاتقها رسالة الغابات السودانية، وساهمت في غرس قيم العلم والانضباط والالتزام، في زمنٍ كان الوجود النسائي في ميدان البحوث العلمية أمرًا استثنائيًا.

لم تكن مجرد عالمة في المختبر، بل كانت روحًا مؤمنة بأن بذرة واحدة قد تغيّر وجه الأرض، وأن العمل في حقل البذور والغابات هو دفاع عن الحياة ذاتها.

جمعت بين الدقة العلمية والتواضع الإنساني، وبين الالتزام الأكاديمي والقدرة على الإلهام، حتى صارت نموذجًا نادرًا للباحثة التي تُنبت المعرفة وترويها بالصبر والإيمان.

حين رحلت في الثاني عشر من نوفمبر 2025، لم تفقد الغابات باحثة فحسب، بل فقدت أمًّا علمية لأجيال كاملة من طلاب الجامعات، ومثالًا نادرًا في العطاء الهادئ المتصل. رحلت وقد تركت في كل بذرة من بذور الأشجار التي درستها شيئًا من روحها، وفي كل كتاب وكتيّب من مؤلفاتها لمسة من إخلاصها، وفي كل من عرفها ذكرى إنسانة نذرت حياتها للعلم والبيئة والإنسان.

*2: الجذور والبدايات – من الطفولة إلى مقاعد العلم*
ولدت سيدة محجوب عام 1956، في زمنٍ كانت فيه المرأة السودانية تخطو أولى خطواتها نحو التعليم العالي، وكان حلم الجامعة لا يزال بعيد المنال لمعظم الفتيات. نشأت في بيئة سودانية أصيلة غرست فيها حبّ الطبيعة والارتباط بالأرض، وهو ما سيشكّل لاحقًا نواة شغفها بعالم النبات والغابات.
منذ صغرها، أظهرت نبوغًا وميولًا واضحة نحو دراسة الكائنات الحية، وكان شغفها بملاحظة النباتات والحياة الريفية حولها مدخلًا لرحلتها العلمية.
وفي عام 1977، تخرّجت في جامعة الخرطوم حاصلة على بكالوريوس الشرف في علم النبات من كلية العلوم، وهي فترة شهدت بداية وعيها العميق بأهمية الغابات في توازن البيئة السودانية.
لم تكتفِ بالبكالوريوس، بل واصلت دراساتها العليا في جامعة الخرطوم – كلية الزراعة، لتحصل في عام 1982 على درجة الماجستير في فسيولوجيا بذور الأشجار الغابية السودانية، ثم نالت درجة الدكتوراه في المجال نفسه عام 2002 من كلية العلوم بجامعة الخرطوم.

كانت سيدة محجوب تؤمن أن البحث العلمي لا يكتمل إلا بالمثابرة والتجريب، فواصلت تطوير نفسها علميًا عبر الدورات والزمالات الخارجية.
وفي عام 1990، حصلت على زمالة متقدمة في اختبار وضبط جودة البذور من كوبنهاجن – الدنمارك، كما التحقت بعدة دورات في كينيا، وتنزانيا، وبوركينا فاسو حول معالجات البذور وأمراضها.

لم تكن تلك الدورات مجرد تدريب مهني، بل كانت نافذة انفتحت منها على العالم، حيث رأت كيف يمكن للعلم أن يخدم الإنسان ويغيّر بيئته. ومنذ تلك اللحظة، قررت أن تجعل من البذرة — ذلك الكائن الصغير الهش — محور حياتها العلمية، وأن تكرّس جهودها لفهمها وحمايتها وتطوير تقاناتها.

*3: من المختبر إلى الحقل – سيدة البحوث والغابات*
حين التحقت البروفيسور سيدة محجوب بـمركز بحوث الغابات في سوبا عام 1977 كمساعدة باحث، لم يكن أحد يتوقع أن هذه الشابة الهادئة ستصبح بعد عقود أول عالمة سودانية تتولى إدارة المركز القومي لبذور الأشجار الطبيعية، وأحد أعمدة العلم في مجال فسيولوجيا البذور.

بدأت رحلتها المهنية بين المعشبة والمختبر، فعملت أولًا في تصنيف النباتات وصيانة المعشبة، وهو ما أتاح لها التعرف على التنوع النباتي الواسع في السودان.
وفي عام 1981، عُيّنت باحثة في قسم النبات بالمركز، ثم أصبحت باحثة أولى عام 1985، وانتقلت لاحقًا إلى قسم البذور عام 1989، لتبدأ مرحلة جديدة من مسيرتها العلمية.

ساهمت في تأسيس المركز القومي لبذور الأشجار عام 1990، وهو إنجاز وطني كبير مكّن السودان من أن يكون من أوائل الدول الإفريقية التي تمتلك مركزًا متخصصًا في إدارة وحفظ وإكثار بذور الأشجار الغابية.

وبصفتها أخصائية بيولوجيا البذور منذ التأسيس، لعبت دورًا محوريًا في إنشاء المعامل، ووضع لوائح العمل، وتدريب الكوادر الفنية، وإعداد المناهج الخاصة باختبار وضبط جودة البذور.

وفي عام 2004، تم تعيينها مديرة للمركز القومي لبذور الأشجار الطبيعية، وهو المنصب الذي شغلته حتى عام 2012.

خلال هذه الفترة، أصبحت المركزية السودانية لبذور الأشجار نموذجًا في إفريقيا والمنطقة العربية، إذ نُظّمت فيه سنويًا دورات تدريبية وطنية وإقليمية شارك فيها باحثون من السودان ودول الجوار.

لم تكن الإدارة بالنسبة لها مكتبًا مغلقًا، بل كانت حضورًا يوميًا في الميدان والمختبر، إذ كانت تتابع بنفسها التجارب، وتناقش الفنيين، وتشرف على التجارب الحقلية، وتكتب التقارير بيدها.

كانت تؤمن أن القيادة في البحث العلمي تعني أن تكون جزءًا من التجربة، لا مجرد متفرج عليها.
من أبرز إنجازاتها في تلك المرحلة تطوير بنك البذور السوداني، وإدخال تقانات جديدة لحفظ البذور في الظروف المناخية الحارة، ووضع دليل علمي لاختبار جودة بذور الهشاب والطلح والسنط والنيم — وهي أشجار محورية في الاقتصاد البيئي للسودان.

كما ساهمت في إعداد أول دليل عملي للبذور والغرس (1995) وكان هذا الدليل من أوائل المراجع العربية المتخصصة في مجال البذور الغابية.
ورغم أنها شغلت منصبًا قياديًا، فإنها بقيت متواضعة في تعاملها مع الجميع — تعطي الخبرة بلا حدود، وتفتح الأبواب للطلاب والفنيين، وتعتبر نجاحهم امتدادًا لرسالتها الشخصية.

كانت تقول دائمًا:
“البذرة ليست مجرد مشروع بحث، إنها بداية حياة، والباحث الحقيقي هو من يصبر عليها حتى تنبت.”

تحت قيادتها، تحوّل مركز بذور الأشجار إلى منصة علمية نشطة، تستضيف ورشًا إقليمية، وتنفذ أبحاثًا تطبيقية في الزراعة الجافة، ومكافحة التصحر، واستعادة الغطاء النباتي في المناطق المتدهورة.
لقد جعلت من العلم وسيلة لخدمة الإنسان والبيئة، لا غاية أكاديمية فحسب.

*4: الباحثة الرائدة – حين أصبحت البذرة علماً ومنهجاً*
حين نتحدث عن البروفيسور سيدة محجوب كباحثة، فنحن نتحدث عن نموذجٍ فريدٍ للعلم المقرون بالمثابرة، وعن باحثة لم تكتفِ بالمختبرات، بل جعلت من الغابة والميدان معملها المفتوح.
أمضت أكثر من أربعة عقود في دراسة فسيولوجيا بذور الأشجار الغابية، وهو مجال دقيق يتطلب صبرًا وذكاءً وملاحظة متأنية، خاصة في بيئة السودان الصعبة والمتنوعة مناخيًا.

كانت تؤمن بأن فهم البذرة يعني فهم الحياة ذاتها، فكرّست جهودها لاكتشاف أسرارها كيف تنمو، وكيف تنام، وكيف تُستعاد حيويتها بعد السكون.

ونتيجة لهذا الشغف، أصدرت أكثر من 31 ورقة علمية محكمة نُشرت في مجلات محلية وعالمية، إضافة إلى 13 كتيبًا متخصصًا في إعداد واختبار وتخزين البذور.

ومن بين أعمالها التي تُعد من المراجع الكلاسيكية في هذا المجال:
• اختبار البذور (1995 – محدّث 2005)
• تخزين البذور (1995 – محدّث 2005)
• طرق كسر سكون بذور الأشجار – الجزء الأول: السكون الخارجي (1998)
• سلسلة دلائل البذور والزراعة (الهشاب، الطلح، السنط، النيم، الهجليج) التي أعدّتها بالاشتراك مع زميلها الدكتور طلعت دفع الله عبد الماجد.

لم تكتب هذه الأدلة بأسلوب أكاديمي جاف، بل بلغة مبسطة تصلح للعاملين في الغابات والمشاتل، لأن هدفها لم يكن النشر فقط، بل نقل المعرفة إلى الميدان.

كانت تقول لطلابها دائمًا:
“البحث العلمي لا قيمة له إذا لم يخرج من الورق إلى الأرض.”
كما كانت من أوائل من ربطوا بين علم البذور والتنوع الحيوي في السودان، حيث شاركت في إعداد التقرير الخامس للتنوع الحيوي النباتي بالتعاون مع المجلس الأعلى للبيئة، وأسهمت في صياغة مشروع إنشاء مركز حفظ الصفات الوراثية النباتية عام 2021.

ولم يكن اهتمامها علميًا فحسب، بل كانت ذات رؤية استراتيجية، إذ شاركت في اللجنة التي وضعت الاستراتيجية الوطنية الممتدة لـ 25 عامًا لتأمين إمداد المشاتل ببذور الأشجار المحسنة (2005)، كما كانت عضوًا فاعلًا في اللجنة الفنية للتقاوي والمشاتل بهيئة المواصفات والمقاييس منذ عام 2001، حيث وضعت المعايير الخاصة ببذور الأشجار الغابية في السودان.

كانت تؤمن أن مستقبل الغابات يبدأ من جودة البذور، وأن حماية البيئة لا تنفصل عن العلم والبحث، ولا يمكن تحقيقها بالشعارات وحدها.

*5: صوت المرأة في البحث العلمي – حين كسرت الصمت بزهدها وصبرها*
حين التحقت سيدة محجوب بمركز بحوث الغابات في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن البيئة العلمية في السودان ترحّب كثيرًا بوجود المرأة في هذا المجال الصعب.
لكنها دخلت بثقة، لا تحمل شعار التحدي بل رسالة العلم والالتزام. كانت تؤمن أن الاجتهاد هو الصوت الوحيد الذي لا يُجادل فيه أحد، وأن الحضور العلمي لا يحتاج صراخًا بل عملًا متواصلًا وصبرًا طويلًا.

بهذا الهدوء، استطاعت أن تفرض نفسها كأول امرأة تتبوأ موقعًا متقدمًا في بحوث الغابات السودانية، ليس بمنطق الكوتة أو الامتياز، بل بجدارتها وعلمها وإنتاجها.

فتح حضورها الطريق أمام أخريات، وأصبحت قدوة لجيلٍ من الباحثات الشابات في السودان وخارجه، اللواتي وجدن فيها مثالًا للمرأة التي جمعت بين الأنوثة والعلم، وبين المسؤولية المهنية والإنسانية.

لم تكن سيدة محجوب من النوع الذي يرفع الشعارات النسوية، لكنها كانت تُجسّدها عمليًا، بجدها، بانضباطها، وبإصرارها على أن يُقاس الإنسان بعلمه لا بجنسه.

وقد تجسّد هذا الاعتراف حين كُرّمت من جامعة الأحفاد للبنات ومنظمة اليونسكو تقديرًا لدورها في تمكين النساء في مجالات العلوم البيئية، وهو تكريم لم يكن صدفة، بل ثمرة مسيرة طويلة من الإخلاص والإنجاز.

في كل اجتماع علمي كانت تحضر بهدوء، تنصت أكثر مما تتحدث، لكنها حين تتكلم، كان رأيها مسموعًا، لأنه مبني على تجربة عميقة ومعرفة دقيقة.
وكان كثيرون يصفونها بأنها “صوت العلم الرزين” في اجتماعات اللجان الفنية.

رحلت وهي تحمل إرثًا كبيرًا من الاحترام، ليس فقط من زملائها الرجال، بل من كل الباحثات اللواتي اقتفين أثرها.

فقد كانت سيدة محجوب بابًا فتحته أولًا ودخلت منه أجيال كثيرة من النساء السودانيات إلى عالم الغابات والبحوث التطبيقية.

*6: المعلمة والمشرفة والأم الروحية*
لم يكن تأثير البروفيسور سيدة محجوب محصورًا في أوراقها العلمية أو مناصبها الإدارية، بل كان أعظم ما تركته هو الأثر الإنساني والتربوي في طلابها وزملائها.

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، أشرفت على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في مجال بذور الأشجار والغابات، بالإضافة إلى عشرات بحوث التخرج.
كانت تتعامل مع طلابها بروح الأم، تشجعهم على المثابرة، وتوجّههم دون أن تفرض عليهم آراءها، وتحرص على أن تزرع فيهم حبّ العلم قبل حبّ الشهادة.

يقول أحد طلابها:
“كانت البروفيسور سيدة محجوب تدخل المعمل بابتسامة دائمة، تسأل عن تجاربنا كما تسأل الأم عن أبنائها.

لم تكن تراقبنا لتصحّح، بل لتعلّمنا كيف نخطئ ونتعلّم من الخطأ.”

كانت تمتاز بأسلوب بسيط وواضح في التدريس، وتملك قدرة فريدة على تبسيط المفاهيم العلمية الصعبة.

دَرّست في جامعة الخرطوم – كلية الغابات، وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وتركت فيها أثرًا عميقًا كأستاذة علمية ومربية إنسانية.

ورغم تقاعدها، لم تنقطع عن طلابها، فكانت تتابعهم بالمراسلات، وتراجع بحوثهم، وتشارك في مناقشاتهم كممتحن خارجي في العديد من الجامعات.

لقد كانت بالنسبة لهم أكثر من مشرفة؛ كانت نبعًا من الحكمة والحنان، ومثالًا على أن القيادة الحقيقية لا تأتي من السلطة بل من القدوة.

يقول أحد زملائها المقربين:
“لم تكن سيدة محجوب ترفع صوتها أبدًا، لكنها كانت ترفع من قيمة العمل.
في حضورها، كنت تشعر أن المكان منضبطٌ دون أن تصدر تعليمات، وأن الجميع يريد أن يكون في مستوى تفانيها.”

إن صورتها في ذاكرة طلابها وزملائها هي صورة الأستاذة التي لا تتعب من السؤال، ولا تملّ من التعليم.

كانت ترى في كل طالب مشروع عالمٍ جديد، وفي كل تجربة معملية احتمال اكتشافٍ جديد.

ولذلك، حين تذكرها أجيال الباحثين اليوم، فإنهم لا يذكرونها كأستاذة جامعية فحسب، بل كـأمٍّ علمية غرسَت فيهم حبّ المعرفة والانتماء للمهنة.

*7: إرثها العلمي والإنساني – حين تحوّل البحث إلى رسالة وطن*
ليس من السهل تلخيص إرث البروفيسور سيدة محجوب محمد إبراهيم في سطور قليلة، فحياتها كانت مزيجًا نادرًا من العلم والعمل والالتزام الأخلاقي.

لقد أسهمت في تأسيس واحدة من أهم ركائز البحث العلمي في السودان: ثقافة بذور الأشجار الغابية، فحولت هذا التخصص من مجرد نشاط فني إلى علمٍ دقيقٍ له معاييره ومناهجه وتقاناته الوطنية.
ساهمت في إعداد الاستراتيجية الوطنية لإمداد المشاتل ببذور الأشجار المحسّنة (2005)، التي وُضعت لتأمين مصادر البذور عالية الجودة لكل ولايات السودان لمدة ربع قرن.

كما شاركت في اللجنة القومية للتنوع الحيوي، وأسهمت بفعالية في مشروع حفظ الموارد الوراثية النباتية، وشاركت في إعداد الاستراتيجية القومية لحزام الصمغ العربي ومشروعات مكافحة التصحر واستعادة الغطاء النباتي.

كانت تملك رؤية واضحة مفادها أن الغابات ليست فقط ثروة بيئية، بل ركيزة للتنمية الريفية والأمن الغذائي.

ورأت أن كل بذرة تُزرع اليوم هي استثمار في المستقبل، وأن حماية الغطاء النباتي مسؤولية وطنية لا تقل أهمية عن الأمن الاقتصادي والسياسي.

لم يكن دورها محصورًا في الأوراق العلمية، بل تعدّاه إلى صياغة السياسات والمشاركة في وضع المواصفات الوطنية للبذور ضمن الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، وكانت عضوًا مؤثرًا في اللجنة الفنية للتقاوي والمشاتل منذ عام 2001.

ومن خلال عضويتها في المجالس واللجان، ربطت بين المؤسسات البحثية والجهات التنفيذية، فكانت جسرًا بين المختبر والواقع.

لقد مثّلت نموذجًا للعالِم الذي يرى أن المعرفة لا تكتمل إلا حين تتحول إلى عمل يخدم المجتمع.

أما على الصعيد الإنساني، فقد كانت مثالًا في التواضع والنزاهة، فلم تُعرف يومًا بالسعي وراء المناصب أو الأضواء.

“العلم لا يحمل اسم صاحبه، بل يعيش باسمه هو.”

*8: الإنسانة التي لم تنقطع عن العطاء*
حتى بعد أن وصلت إلى سنّ التقاعد، لم تعرف البروفيسور سيدة محجوب طريق الراحة أو العزلة.

كانت ترى أن العطاء لا تحده الوظيفة، ولا ينتهي بقرار إداري.

واصلت مشاركاتها في المؤتمرات وورش العمل والاجتماعات الفنية الخاصة بالبيئة والغابات، وظلّت تكتب وتراجع وتقدّم الاستشارات العلمية مجانًا، بدافع من حبّها للمهنة ووفائها للعلم.

شاركَت في لجان المجلس الأعلى للبيئة، وأسهمت في إعداد عدد من التقارير الوطنية حول التنوع الحيوي النباتي والتغير المناخي والموارد الوراثية.

كما كانت عضوة في لجان علمية بجامعات متعددة كممتحن خارجي، تشرف وتناقش وتوجّه طلاب الدراسات العليا، وكأنها لم تغادر مكتبها في سوبا يومًا.

عرفها زملاؤها بأنها “التي لا تعرف الكلمة لا أستطيع”،

فمهما كانت الظروف، كانت تلبي الدعوات وتشارك بصوتها وخبرتها.

وعندما كانت تتحدث في الندوات، كان حديثها بسيطًا ومباشرًا، يخلو من التعقيد، لكنه عميق في معناه، لأنها كانت تتحدث من واقع التجربة لا من خلف الكتب.

كانت تحمل في قلبها همّ البيئة السودانية، وتشعر بمسؤوليتها تجاهها حتى آخر أيامها.
وفي مجالسها الخاصة كانت تقول:
“البيئة أمانة، والغابة ليست شجرة فقط، بل حياة كاملة.”

كانت كريمة النفس، عفيفة اللسان، رقيقة التعامل، تحترم الكبير وتصغي للصغير.
وحين تسألها عن سرّ صفائها رغم طول السنين وضغوط العمل، كانت تبتسم وتقول:
“أجمل ما في مهنتي أنها تُبقيني على تماس بالحياة.”

لقد ظلت حاضرة في ذاكرة كل من عرفها، ليس كعالِمة فحسب، بل كإنسانة نذرت وقتها وجهدها وعمرها لخدمة الآخرين.

*9: وداع في صمت النبلاء*
في صباح الثاني عشر من نوفمبر عام 2025، أُعلن رحيلها الهادئ، كما كانت حياتها دائمًا.

رحلت البروفيسور سيدة محجوب محمد إبراهيم، بعد رحلة طويلة من العطاء العلمي والإنساني امتدت لما يقارب نصف قرن. كان رحيلها كغروب شمسٍ هادئة خلف أشجار النيم في سوبا، دون ضجيج أو وداع رسمي، لكنها تركت في قلوب زملائها وتلاميذها فراغًا عميقًا لا يُملأ.

في ذلك اليوم، لم تبكها الغابات فقط، بل بكتها البذور والمشاتل، وبكى العلماء والطلاب وكل من عرفها.

نعاها زملاؤها بعبارات مؤثرة، فقال أحدهم:
“رحلت البذرة الأولى التي أنبتت جيلًا من العلماء.”

وقال آخر:
“كانت سيدة محجوب علمًا يمشي على الأرض، لا تتحدث كثيرًا لكنها تزرع الأثر في كل مكان تمرّ به.”

أما طلابها فكتبوا عنها في صفحاتهم الشخصية كلمات بسيطة لكنها صادقة:

“لم تكن أستاذتنا فقط، كانت أمّنا الثانية، كانت الضوء الذي أرشدنا في طريق البحث والاحترام.”

رحلت وهي راضية بما قدمت، مؤمنة أن الله لا يضيع عمل من أحسن صنعًا.

وغادرت الدنيا تاركة إرثًا من العلم والخلق، ودفترًا من الصفحات البيضاء التي ستظل مفتوحة في ذاكرة السودان العلمي والبيئي.

*10 كلمة وفاء – ستظل البذرة تنبت باسمك*
رحلت سيدة محجوب، لكنها لم تغب.

ما زال اسمها يُذكر في قاعات البحث ومختبرات مركز بحوث الغابات، وفي كل منشور علمي عن بذور الهشاب أو النيم أو الطلح.

ما زال طلابها يستشهدون بأبحاثها، ويقتبسون من كتبها، ويروون عنها مواقفها الإنسانية التي سبقت علمها.

لقد كانت امرأة من طراز خاص؛ لم تبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن أثرٍ يبقى.

آمنت بأن المرأة قادرة على أن تكون في مقدمة البحث والعلم إذا وجدت الإرادة، فكانت نموذجًا صامتًا وفعّالًا في الوقت نفسه.

إن أفضل تكريمٍ لها اليوم ليس الكلمات ولا المراثي، بل أن تُحمل رسالتها إلى الأمام، وأن تُنشأ جائزة تحمل اسمها لتشجيع النساء السودانيات في مجالات الغابات والبيئة.

فهي لم تكن فقط باحثة متميزة، بل رائدة حقيقية في العلم والحياة.

وفي الختام، نقول كما قال أحد محبيها:
“حين نزرع شجرة في السودان، فإن ظلها سيحمل بعضًا من ذكراكِ يا سيدة الغابات.”

عن المحرر العام

موقع ايكوسودان نت موسسة السموءل حسن بشري بدوي موقع لخدمة الإعلام التنموي والاقتصاد الرقمي

شاهد أيضاً

يوفر مليارات الدولارات.. قمح خارق يُحدث ثورة في الزراعة العالمية

رضا أبوالعينين البيان طور علماء من جامعة كاليفورنيا في ديفيس نوعا جديدا من القمح قادرا …

البيئة بيتنا