بقلم/ أبوعاقله أماسا
* في الأيام السابقة كانت حركتي محدودة بسبب المرض والإنشغال بمتابعة العلاج وكذلك حالة من الرعب المضاعف أصابتني مما ينتظرنا كسودانيين بعد إعلان الحزب الحاكم للبشير كمرشح لولاية جديدة، في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها تقييما أنها مأساوية، والجانب الأكثر قبحا فيه أن شورى الحزب الحاكم يضم شخصيات لا تصطف في طوابير الخبز صباحا ومساء، ولا تقف سياراتهم في صفوف طويلة للحصول على وقود، وعندما يضطر أبنائهم لدخول الخرطوم ويستنشقوا نتانتها وقاذوراتها وتصيبهم موجة من الدوار والغثيان تقطع لهم التذاكر على جناح السرعة ليعالجوا في (تايلاند).. والساعات التي تقله من الخرطوم إلى (بانكوك) يقضيه عبد من عبادالله في إنتظار نتيجة فحص بمستشفى (النو) بالثورة، وربما يتوصل الطبيب إلى قرار بأن هذا المواطن لايعاني مرضا عضويا وإنما يعاني فقط (الجوع)..!
* أيام قضيتها بين المستشفيات والمراكز الصحية رأيت فيها العجب، من (كلينيك) جامعة الخرطوم حيث كان ينبغي أن أتلقى خدمة العلاج وحتى مستفيات أم درمان.. والعيادات الخاصة، وكانت معاناتي قطرة في محيط ما رأيت لدى الآخرين وفي كل مرة كنت أتمنى لو أن شورى الحزب الحاكم كان معي، فملخص جولتي المرضية: أنني ظللت أشرب مياه غير صالحة للإستعمال الآدمي طيلة ست سنوات ونصف قضيتها بإحدى منافي الصحفيين التي سميت جورا بمدن وإسكان الصحفيين، ولكن من يرى مصائب غيره تهون عليه مصائبه، فهذه المستشفيات والمراكز الصحية تحتضن مآسي تقتلع القلب من شرايينه، وفيها عالم لو اطلع عليه مجلس شورى الحزب الحاكم لما تجرأ بإعلان رغبته في المنافسة على الكراسي وإعادة ترشيح ذلك الرجل لولاية جديدة.
* قبل أربعة أيام، وبينما كنت أصارع شبح الحمى والأرق وأحاول أن إنتزاع النوم انتزاعا كانت عقارب الساعة تشير للثانية والنصف عندما قرع أحدهم باب بيتي، نهضت متثاقلا وعندما فتحته ميزت من بين ركام الظلام الكثيف وجه جاري (بابكر).. وكان من أبناء منطقة أبوكرشولا الذين لفظتهم أحداثها إلى الخرطوم.. قبل أن أستفسره وبعد السلام والمجاملة مد إلي (هاتفه) قائلا: جمعة جارك عايزك في التلفون…. ومن بين عشرات الكلمات خرجت منه بمعلومة مفادها ( فرح إشتبك مع جاره الذي يتقاسم معه بيت واحد والنتيجة أنه مات قبل قليل بمستشفى النو… والشرطة تطلب حضورك كأقرب معارفه لتولي الإجراءات القانونية)… كانت صدمة لأن فرح هذا لديه خمسة من الزغب الصغار، أكبرهم في الصف الثاني أساس..!!
* مات فرح نتيجة مشاجرة مع جار مزعج له إقتسم معه المنزل وتعين عليهما أن يتشاركا رسوم الكهرباء، ولكن القاتل لم يوفق في توفير مبلغ (180) جنيه هي كل إشتراكات ثلاثة أشهر، ولم يحسن التعبير عما يمر به من (عسر)… وفي لحظة حدث الإشتباك وفاضت روح فرح وذهب القاتل إلى السجن في جريمة ضمت خمسة أطفال صغار إلى قوائم اليتامى الذين ينتظرون الموت البطيء في دولة القيامة الصغرى، وفيها يصرخ كل إنسان (يانفسي).. وكذلك وقف إثنين من أطفال القاتل على برزخ الأحداث ينتظران ما ستسفر عنه الإجراءات القانونية، وفي الغالب سينضمان إلى قائمة اليتامى… يتامى البؤس.. وسيكون من سوء طالعهم أنهم يتامى في عهد حزب ومجلس شوراه يعيشون في عالم آخر، بينهم وبيننا جدار عازل و(متعالى) لا يعرف من في يمناه مايحدث في الطرف الآخر.
* يوم الأربعاء الماضي كان يوما بطول سنة من القحط في المشاعر، وسنينا من الإحباط والإنكسار، جثمان مسجي في مشرحة أم درمان، وإجراءات غريبة تغلب عليها إما البيروقراطية أو التضليل المتعمد، حيث لايعقل أن يقول مسؤول الشرطة لذوي الميت: توجهوا للمشرحة لاستلام الجثمان… هكذا شفاهة وبدون مكتوب، وكانت النتيجة أنهم قضوا ساعات مابين مركز الشرطة والنيابة ومستشفى أمدرمان، وكلها مراكز خدمية شيدت لتقديم خدمة للمواطن الذي يتكفل بدفع رواتب العاملين فيها.. ومع ذلك لايحصل على خدمة يستحقها.. كانت مهمتي نقل الخبر الفاجع لذوي القتيل لصلة ما تربطني بهم ولطالما كنت حلقة وصل بينهم.. وهي مهمة تحمل من المشقة ما يفطر القلوب.. فخرجت منها حطاما.. فالحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة… بل أن كل المعطيات تقول أن فرص مضاعفة مثل هذه الحوادث في تزايد وسأعود لهذا الأمر في مقال آخر.
* أولئك البشر.. أو تلك الطبقة التي أو جدتها السلطة المتراكمة والمستمرة لفترة طويلة لايشعرون بما وصل إليه حال الشارع والمواطن، فكل منهم يسخر من راتب الحكومة الرسمي ويتباهى بأنه يملك من الأرصدة البنكية ما يجعله في غنى عن هذه المبالغ الضئيلة، فولاة الولايات من لدن أحمد هارون وأيلا ومعتمدي المحليات البعيدة كلهم جاءوا بأسرهم إلى الخرطوم حيث التعليم والعلاج والسكن والرفاهية والحياة المخملية وجنة الدنيا، وهذا يعني أنهم لايعرفوا أسعار اللحمة وربع الذرة ومستويات المدارس والعلاج في محلياتهم، ويعني كذلك أنهم لا يعيشون مع المواطن همومه، وطارق حمزة الأمريكي لن يصطف مع المواطنين لساعات لكي يحصل على الخبز لأبناءه، لذلك من السهل جدا أن يتحدث عن إنجازات حكومته خلال (29) عاما من الشعارات.. في وقت أصبح فيه المواطن خبيرا في شؤون الحكم في وطنه وليس بحاجة إلى من يكلمه ويحجيه ويحاججه بإنجازات وهمية.
* من المؤكد أنهم لم يقرروا إعادة ترشيح البشير واختراق الدستور إلا لأمر أراده الله، ونهاية ترسمها الأقدار بعناية فائقة، لأن الله ألطف بعبادة من كل جبار على الأرض، وألطف بهذا الشعب ولن يجعله يبلغ بأحواله أسوأ ما بلغ..!!
* لقد بلغ السوء مبلغه وهم غير معترفين، ونحن لا نطالبهم بالإعتراف مطلقا، كما لم نطالبهم من قبل بوضع دستور يحدد دورات الرئيس، ولم نطالبهم بمحاربة الفساد فقد أصبحوا هم الفساد، ولم نطالبهم مخاطبتنا يوميا بلغة جديدة، والواقع أن الشعب قد سلم أمره لله وماعاد ينتبه لمايقولون ولايريد أن يعرف عنهم شيئا بعد أن عاش هذا الكابوس لثلاثين عاما وعندما أفاق فتح عيونه على ذات تفاصيل فوضى الأحزاب.
شاهد أيضاً
نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا
أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …