فايز الشيخ السليك
faizalsilaik@gmail.com
مضى عامان على الحراك الثوري في السودان، والذي تفجر عناقيد غضب في الفترة من منتصف ديسمبر ٢٠١٨ وحتى الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩، ووصل الحراك أوج قمته بسقوط رأس النظام الدكتاتور عمر حسن البشير؛ إلا أنّ أبواب تساؤلات ظلت مشرعةً تستقبل عاتيات رياح مخاوف، وعواصف تشكيك حول مآلات الثورة السودانية، وامكانية تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، وتمثلت في الشعار الثلاثي ” حرية، سلام وعدالة” وما تضمنه الشعار من تفاصيل تكون نهايتها تحقيق الكرامة الإنسانية، والمؤكد أن ذات الكرامة لن تكتمل دون الحصول على حقوق الإنسان الطبيعية في المسكن والمشرب والمأكل، وهذا ما لن يتحقق دون تحول اقتصادي ملموس.
وفيما لا تزال جذوة الثورة مشتعلة في داخل نفوس السودانيين، يرى كثيرون أن ما تحقق في السودان يمكن تسميته بأنه نصف ثورة؟ لأن شعارات الثورة بالنسبة لهم لم تتحقق، وأن تغييراً جذرياً لم يحصل، وهذه الحالة تعتبر تعبيراً عن تيارٍ ثوري؛ لا يزال مشبعاً بجمال رومانسية الثوار، ونقاء سريرتها، وفي المقابل يرى آخرون أن الثورة طريق فعل مستمر، وأن التغيير الأفضل هو الذي يتم تدريجياً وبطريقة سلسة.
ويهدف هذا المقال إلى إثارة حوار موضوعي وشفاف بعيداً عن الهتاف والانفعال العاطفي حتى يكون الحوار تقويماُ للتجربة يشارك فيه المهتمون بمصير ومستقبل البلاد، وأعتبره بمثابة حجر في بركة الساكن السياسي وغياب الخطاب الموضوعي في السنوات الأخيرة والذي افتقدته حتى القوى السياسية التي ساهمت في صناعة ودفع الحراك، ولتكون الصورة أكثر وضوحاً سوف أشير إلى تجارب انتقال متمثلة في ربيع شرق أوروبا والربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط ومقارنة ومقاربة ذلك بالانتقال في السودان والتحديات التي تواجه عملية الانتقال الى نظام ديموقراطي حقيقي وعملية السلام والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
سيناريو وسط وشرق أوروبا:-
للوقوف عند تجارب شرق أوروبا، أشير إلى تقرير صادر عن معهد السياسات الأوروبية ” يوربيوم” والمنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، باختيار نماذج من سبع دول، وقسم التقرير التحولات في الدول السبع إلى موجتين في وسط وشرق أوروبا؛ حيث امتدت الموجة الأولى في وسط أوروبا من عام ١٩٩١ إلى عام ١٩٩٦ وشملت الموجة كل من ألبانيا، بلا روسيا وأذربيجان، فيما ضربت الموجة الثانية دول جورجيا، قيرغيزستان، مولدوفا وأوكرانيا. ويرى التقرير أن ” دول وسط أوروبا حققت نجاحاً كبريا في ارساء الحكم الديمقراطي، بينما انزلقت غريها، خصوصاً دول الاتحاد السوفييتي، مرة أخرى إلى النظام السلطوي بشكل سريع. ولكن، فيما يعد برهنت على الضعف الكامل في نظم الحكم المستبدة، ومكنت الاحتجاجات الشعبية في الفترة ما بني 2003 و2010 من إقصاء حكام أربع من دول الاتحاد السوفييتي السابقة، مما مكن شعوب تلك الدول من احل الحصول على فرصة أخرى ”
وحدد التقرير أسباب تعثر التحول من النظم الشمولية والقمعية إلى نظم ديموقراطية سببين تمثل أولهما؛ في أسباب مرتبطة بالمؤسسية في تلك الدول مثل نوع الحكم، الأجهزة التشريعية، وينوه التقرير إلى أنه عادةً” “ما تكون المهمة الأولى بعد قيام الثورة هي اتخاذ القرار بشأن تشكيل سلطات الحكم الانتقالية، وفي الحالات التي لا يمكن أو يفضل فيها إجراء انتخابات بشكل فوري يصبح من الممكن الطعن في شرعية الجهة الحاكمة خاصةً حينما تكون تركيبتها أو تحركاتها بعيدة عن مزاج مجتمع ما بعد الثورة، أو ألا تسعى بالسرعة الكافية للاستجابة للمطالب الأساسية للمواطنين”. وتشمل المسائل المؤسسية لجان الانتخابات، تعديل القوانين والدستور وتحديد الصلاحيات والسلطات بين مؤسسات الحكم.
وقد أدى هذا الواقع مثلاً إلى تأخير اجراء انتخابات في دولة بلاروسيا، التي استقلت عام ١٩٩١، حتى عام ١٩٩٦، وهو ما يؤكد سيطرة ” الحرس القديم الشيوعي” وتحركات أصحاب المصالح وأعداء التغيير الذي يضرب مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم تضع بلاروسيا أو أذربيجان دساتير جديدة إلا في عامي ١٩٩٤، و١٩٩٥. ونتج عن الدستور الجديد انزلاق الدولتين من جديد في براثن الحكم السلطوي، مما يؤكد أن كتابة الدستور تمت بأيادي المعرقلين للتحول الديموقراطي والانتقالي السلمي والسلس للسلطة وفق قوانين معروفة. وأدخلت أوكرانيا، في عام ٢٠٠٤ إصلاحات دستورية أدت إلى حكومة قوية وبرلمان مشتت نتج عن ذلك حالة من الشلل السياسي، فيما منحت جورجيا، سلطات رئاسية واسعة خلقت حالة من عدم التوازن، وهذه الوقائع تعكس الأوضاع السياسية وتسابق القوى السياسية لخلق مراكز قوى تخل بمعادلة النظام الديموقراطي وقوانينه المبنية على حسابات توازن القوى ومبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وشهدت دولة غيرغيزستان، بعد ثورة التوليب في عام ٢٠٠٥، جدلاً واسعاً حول نوع الحكم، إن كان جمهورياً أم برلمانياً وأدى ذلك في عام ٢٠١٠ الى الاطاحة برئيس منتخب ديموقراطياً.
وأطلق التقرير على العامل الثاني المرتبط بصعوبة التحولات العوامل السياقية والناعمة، تظهر ” الحالات التي يتم دراستها في ذلك التقرير أنه، إلى جانب المسائل “المؤسسية“، مثل نطاق الإصلاحات الدستورية، وتوقيت الانتخابات، ونظام إجرائها، فإن ثمة عوامل أخرى مسؤولة عن إبطاء أو تعطيل عمليات الانتقال الديمقراطي. فهناك عوامل سياقية )؛ كاستمرار النزاع المسلح، والأزمات الاقتصادية، والثقافة السياسية الخاصة بالدولة، والفساد(، وهناك العوامل الناعمة )كمحدودية عمليات التشاور العام، وتهميش منظمات المجتمع المدني(.
وشهدت دول الدراسة كذلك حالات من المناورات السياسية وجدل وسفسطة الساسة والقادة التي كثيراً ما تؤثر سلباً وتنعكس على المناخ السياسي وتوتره.
ولم يسقط التقرير الأوروبي العوامل الخارجية مثل التجاذب الروسي والأمريكي ودور الاتحاد الأوروبي في التأثيرات على مجمل الأوضاع السياسية والسياسات الاقتصادية لا سيما مع انتقال الدول من النظام الشيوعي الى نظام اقتصاد السوق الحر.
إن الدراسة التفصيلية المتعمقة لنماذج دول وسط وشرق أوروبا تعطينا صورة مقاربة لطبيعة الانتقال ويمكن تطبيقها على النموذج السوداني مع الاختلاف الثقافي والاجتماعي، إلا أن التجارب الانسانية كثيراً ما تحمل ملامح متشابهة ان لم تكن متطابقة.
سيناريو الربيع العربي:-
مع بدابات العام ٢٠١١، انتظمت في المنطقة العربية حركة احتجاجات واسعة بدأت بما اصطلح بتسميته ” ثورة الياسمين” أو ” ثورة الكرامة” في تونس، و” ثورة ٢٥ يناير” في مصر، لتنتقل العدوى الشعبية الى ليبيا، اليمن، وسوريا؛ إلا أن مآلات التحركات انتهت بنظام حكم عسكري في مصر، وفوضى وقتال ضاري في دمشق وصنعاء وطرابلس، فيما لا تزال تونس تتنفس من عبق ياسمينها، مع وجود حالة من السيولة السياسية، مع بقاء الأوضاع الاقتصادية دون حدوث أي تغيير يذكر!
تميزت مصر بوجود دولة مركزية قابضة أساسها جيش وطني لم يخضع للأدلجة والصراعات القبلية أو الجهوية على عكس أوضاع الجيوش في اليمن وسوريا التان تميزتا أيضاً بوجود مليشيات مسلحة ، وضعف القوى السياسية المنظمة في جميع الدول المعنية. واللافت بروز التيارات الإسلامية العقدية المتطرفة التي كونت مليشيات غلب عليها الانتماء العقدي على الولاء القومي، مثل ” داعش” ” القاعدة” ” الأخوان المسلمون” و” الحوثيون”.
إن انزلاق هذه الدول في دوامة العنف كان أمراً طبيعياُ بسبب سيطرة رجل واحد لأكثر من ثلاثين عاماُ مع غياب كامل لثقافة الديمقراطية وضعف التنظيم السياسي وتفضيل المتنافسين على حل خلافاتهم بالقوة من أجل السيطرة الأحادية.
تونس وحدها:
تميزت تونس، غير سواها من دول المنطقة بانسجام وحدتها الوطنية وتقدم منظمات المجتمع المدني على بقية الدول، فيما ظل ” اتحاد الشغل” متماسكاً قبل وبعد سقوط الرئيس بن علي. وكان نتاج ذلك تمسك التونسيين بهويتهم الوطنية، وأدى ذلك الى اصطدام الإسلاميين بواقع مغاير، فتميزوا بقدر كافٍ من الذكاء ساعد ” حركة النهضة” وزعيمها راشد الغنوشي، على المناورة والتكيف مع الواقع وتقديم تنازلات كبيرة حتى بعد تحقيقهم أعلى الأصوات في أول انتخابات عامة في عام ٢٠١١، واحرازهم نسبة ٤١٪ من جملة المقاعد، حيث نالت (٩٠) مقعداً من جملة ( ٢١٧) مقعداً في المجلس الوطني التأسيسي، إلا أن النهضة لم تشكل الحكومة وحدها، فقدمت المناضل الحقوقي المنصف المرزوقي، زعيم حزب المؤتمر منصب رئيس الجمهورية، فيما شغل حمادي الجبالي، الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية منصب رئيس الوزراء. وفي عام ٢٠١٤، تراجعت مقاعد النهضة الى( ٥٢) مقعداً فاختار حزب نداء تونس القائد الياجي السيبسي رئيساُ للحمهورية حتى وفاته، ثتم اجراء انتخابات في عام ٢٠١٩ وفاز فيها المرشح المستقل قيس السعيد برئاسة الجمهورية، في وقت فازت فيه حركة النهضة ب( ٥٤) مقعداً وحلت ثانيةً، إلا أن رئيسها الغنوشي تولى منصب رئيس المجلس التشريعي.
شهدت تونس، خلال العشر سنوات ثلاث جولات انتخابية ومرت بهدوء، إلا ان البلاد لم تخلو من مظاهر اضطرابات وصلت حد تفجيرات وعمليات انتحارية وحالات اغتيالات سياسية خلال فترة الانتقال الديمقراطي، وقد اقتحم مسلحون متطرفون متحف باردو في العاصمة ويقتلون( 21) شخصا أغلبهم من السياح الأجانب في عام ٢٠١٥.وفي يونيو/حزيران من نفس العام قتل أحد المسلحين مسلح في سوسة 38 شخصا كلهم تقريبا من السياح الأجانب. واللافت كذلك انحناء الإسلاميين لعواصف المجتمع المدني مع وجود انقسامات حول تعديلات في التشريعات في قانون الأحوال الشخصية بما في ذلك زواج المثليين، ومظاهرات متكررة بسبب الأوضاع الاقتصادية أو رفضاً لقرارات منحت قيادات من نظام بن علي، عفواً بعدم محاسبتهم بتهم الفساد المالي.
السيناريو السوداني:-
اكتسب النموذج السوداني فرادةً منذ بدايات الحراك الجماهيري الكبير ومواجهته آلة عنف غاشمة لا ترحم، واختلافاً كذلك في التعاطي مع واقع ما بعد سقوط البشير، وميزت هذه السمات النموذج السوداني تمييزاً عن نماذج شرق ووسط أوروبا، وكذلك عن نماذج الربيع العربي، فقد شرع السياسيون في عملية تشكيل مؤسسات الانتقال بعد مفاوضات بين مع العسكريين نتج عنها ” وثيقة دستورية” ظلت ولا تزال عرضةً للمساومات والتعديل في جوهر نصوصها، وتشكلت نتيجة اتفاق “قوى الحرية والتغيير” مع المجلس العسكري حكومة انتقالية مزدوجة الشكل والمضمون؛ فعلى مستوى السلطات والصلاحيات تشكل مجلسا السيادة والوزراء، كمؤسستين فيما ضمت المؤسستان تحالفاً عسكرياً ومدنياُ، وكان قادة الحلف العسكري جزءً من منظومة حكم النظام البائد قبيل اعلان انحيازهم الى الشارع عقب ثورة شعبية ضخمة تعد الأكبر في تاريخ السودان والمنطقة، فيما وقف حلف مدني على الجانب الآخر في المشهد، مستنداً على حاضنة سياسية تغلب الهشاشة على تكوينها الهشاشة والتباعد بين مكوناتها التي جمعها هدف واحد هو اسقاط النظام ” تسقط بس”.
لكن بعد اتفاق جوبا للسلام مع قوى الكفاح المسلح، برزت مؤسسة ثالثة ” مجلس شركاء الحكم الانتقالي” لتكون مؤسسة الحكم ثلاثية الأضلاع تتقاطع وتتماهى فيما بينها أحياناً وتباعد أحايين أخرى دون تشكيل مجلس تشريعي تنحصر مهامه في التشريع والرقابة.
وتمظهرت الفرادة في تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي من ” مجلس سيادي” يغلب عليه العسكريون نفوذاً، وحكومة مدنية من تكنوقراط، لم تستمر طويلاً لعدم كفاءتها، لتتشكل حكومة ” توافق سياسي” جديدة” يتوقع أن تكون أكثر كفاءةً من سابقتها؛ مع احتفاظ الدكتور عبد الله حمدوك، بمنصب رئيس الوزراء في الحكومتين.