د بكرى الجاك
العقلانية هي احدي ثمرات عصر النهضة و هي التي وضعت اللبنات الفلسفية للثورة الصناعية و كلما تبع من فتوحيات علمية غيرت الحياة علي وجه الارض الي الأبد، و يمكن تعريف العقلانية علي انها امكانية تفسير الظوهر الطبيعية و الاجتماعية وفق منطق قائم علي علاقة ما بين سبب و نتيجة، اي أن لا ظاهرة تحدث كصدفة حتي و ان تعثر علينا فهم الشروط و القوانين التي أدت الي حدوثها. ليس هنالك حاجة الي الخوض في تقديم البراهين علي أنه لم تتقدم أمة أو دولة دون توطين للعقلاينة في طرائق التفكير السائدة و في ادارة المجتمع و الدولة، وفي هذا الاطار هنالك مفهومان اساسيان يرتبطان بالعقلانية كمشروع فلسفي و ثقافي من ناحية و بين دور العقلانية كمنهج في استشراف المستقبل وفق رؤي و خطط و آليات لتحقيق الرفاه الاجتماعي و النهضة الاقتصادية.
المبدأ الأول هو مبدأ علمي شائع في دراسات مناهج البحث و خصوصا فيما يتعلق بالاثبات، و يعرف هذا المبدأ بأن غياب الدليل لا يعني أنه دليل للغياب The absence of evidence is not the evidence of absence و لكي نبسط الفكرة فقد ذكرنا أن العقلاينة Rationality هي طريقة تفكير و منهج يسعي الي تفسير الظواهر بالبحث عن اسباب وجودها، و مناهج البحث العلمي بتنوعها و تعقيداتها حسب كل تخصص تسعي عادة الي الاثبات عبر رفض الفرضية السالبة او ما يعرف بال Null Hypothesis باعتبار أنه لا يمكن اثبات وجود ما هو سالب، و عليه رفض الفرضية السالبة يعني عمليا قبول وجود علاقة سببية أو ظرفية بين عامل ثابت و عامل متغير. و لاعطاء مثال يتحدث الناس كثيرا في وصف ما يحدث في شوارع السودان البرية من موت مجاني بأنها حوادث حركة لا يمكن منعها. تفسير هذه الظاهرة وفق منطق القدرية السائد أنها أمر مكتوب و هذا يعني أنه ليس بوسع السائق أو الراكب او القاطن قرب الطريق أو الدولة فعل اي شيء لتقليل معدلات هذا الموت، واذا سلمنا بهذا المنطق فليس هنالك شيء يمكن فعله لأن هذه الحوادث خارج قدرة اي فعل بشري للتدخل. اما اذا اردنا تطبيق منهج علمي لتفسير ظاهرة الحوادث فبأمكاننا أن نفترض أن اسباب الحوادث قد تعود الي عوامل شتي مثل سوء تأهيل الطرق العامة و سوء القيادة و التخطي المتهور في طرق ضيقة و غياب الوعي المروري للسائق و الراكب و الراجل علي السواء. و لاثبات تأثير أي من هذه العوامل المستقلة علي الحوادث كعامل تابع في هذه الحالة يمكن اجراء دراسات لتحميل اي من هذه العوامل المذكورة مسؤولية ما في التسبب في الحوادث المرورية، و ربما يكون هنالك عوامل أخري مثل تسليم الناس أن افعالهم بما فيها القيادة المتهورة لا علاقة لها بما يحدث من نتائج لأنهم يعتقدون أن الحادث أمر رباني، و عليه فأن لم يستطع الباحث ايجاد دليل علي تاثير اي من العوامل المستقلة علي العامل التابع فأن هذا لا يعني دليل علي غياب هذا التأثير.
المبدأ الثاني هو ما يعرف بالتخطيط للتنمية و لبناء المستقبل، و هنالك قول شائع أن الفشل في التخطيط هو التخطيط للفشل Failing to plan is planning for failure و هذا مبدأ عقلاني لأنه يدعو المشرِّع أو الفرد أو جهاز الدولة الي دراسة الواقع و فهم العلاقات بين المشاكل و مسبباتها، و التخطيط في هذا السياق هو فكرة عقلانية صميمة بحيث يقوم المخطط بدراسة اسباب هذه المشكلات و من ثم يقوم برسم السياسات العامة قصيرة المدي و متوسطة المدي و طويلة المدي لمعالجتها. بالطبع، من البداهة الاشارة الي أن المشاكل الاجتماعية عبارة عن نظم متكاملة و ما ندر ربط مشكلة اجتماعية ما بسبب واحد أو عامل أوحد، العكس هو الصحيح اذ تتداخل هذه المشاكل ما بين اقتصاد و سياسة و اجتماع. فاذا تحدثنا عن العلاقة بين التعليم و الصحة سنجد أنهما يؤثران في بعضهما البعض و سنجد تاثير للثقافة و طريقة تنظيم المجتمع في التعاطي مع اي من هذه المشاكل. المهم في هذا الأمر أن المنطق القدري الذي ينسب كل شيء الي ارادة ربانية و الي عوامل أخري لا علاقة لها بمسببات المشاكل يجعل من الصعب قيام تخطيط علي اسس علمية سليمة، بل أن الثقافة السائدة التي تشكل المخيال الاجتماعي و التي لا تري علاقة بين الفعل و النتيجة هي احدي أهم الاسباب التي تجعل المخطط و المشرِّع و المواطن يتعامل مع فكرة التخطيط كطقس فوقي شوفيني و لا تؤخذ بجدية. ففي مؤخرة العقل الجمعي يقين أن الأمر في أوله و آخره هو تدبير خارجي، و عليه عملية ربط المشاكل باسباب موضوعية وفق محصلة عقلانية تتحول الي فضاء لطق الحنك و لا يتم التمعن و التدبر في هذه العلاقة السببية بشكل جاد لبناء التدخلات الصحيحة. هنالك أسباب كثيرة تدفع الفرد الي السعي للتحلل من المسؤولية الفردية و الهروب الي المشيئة و الارادة السماوية، ما يعنينا هنا كيف تتجلي طريقة التفكير هذي في سلوك الافراد و الجماعات و الدولة، و هنا من واقع الملاحظة المتعمقة سنتطرق الي ثلاثة تجليات.
اول هذه التجليات هو داء سوء ترتيب الاولويات علي مستوي الفرد و المجتمع و الدولة، ليس غريبا علي بلادنا أن تجد ملايين الأفراد يمتلكون تلفونات تفوق قيمة الواحد منها مئات الدولارات في حين لا يملك ذاك الفرد حتي قوت يومه، و لولا احترام ذوق القاري لقلنا أكثر من ذلك بكثير. من السهولة التأمل في الاسباب الموضوعية التي تربط بين الفعل و النتيجة التي تجعل الفرد يعتقد أن التلفون أو العمرة أو اي كان الأمر لما هو أولوية و وفق اي منطق. في تقديرنا اذا ما قرر اي باحث اجتماعي القيام بدراسة اجتماعية جادة للتحري عن مدي عقلانية الأفراد و الأسر في تحديد أولوياتهم ربما سنكتشف العجائب عن انفسنا كمجتمع، أما اذا انتقلنا الي فضاء الدولة و طريقتها في تحديد أولوياتها فربما سنري مدي الحاجة الي توطين العقلانية. ليس كل المشاكل تحل بواسطة الموارد المالية وحدها، و شماعة الامكانيات كانت و ما زالت حجة أفندية الدولة السودانية من لدن الاستقلال الي يومنا هذا، أما اذا نظرنا الي أوجه الانفاق العام فسنعلم أن الأمر في جوهره قبل قلة الامكانيات ايضا يكمن في داء سوء ترتيب الأولويات.
ثاني التجليات ضعف القدرة علي استدامة العمل الجماعي، فنحن السودانيون قد نتمتع بقدرات فذة كأفراد كل في مجاله اما اذا تجمعنا لفعل شيء، اي كان، فسرعان ما تتعالي عندنا النزعات الذاتية و الشوفونية و الرغبة في الانتصار للذات علي حساب العمل الجماعي، و هذا الداء ربما يكون السبب الأوحد في انهيار و توقف آلاف المبادرات و التحالفات و التكتلات و انشقاق العديد من الاحزاب و النقابات و انشقاق المنشق منها. ضعف القدرة علي العمل الجماعي ليس صدفة بل أمر ذو علاقة بعدم القدرة في تحديد الأولويات و ترتيبها وهذا نتاج مباشر لغياب الثقافة الديمقراطية الأمر الذي يجعل بعضنا يدور فلك الذات اكثر من الموضوع علي الدوام، و لكم في الاجتماعات التي تتطاول الي ساعات حيث لابد أن يتحدث كل شخص حتي و ان كان كل ما ينوي قوله قد قيل من قبل، فكيف لا و لابد للجميع الكلام. وفي سياق الحق في الكلام ها قد تحول جل السودانيون الي خبراء في الطب و الاجتماع و الاقتصاد و التنمية و السياسة العامة و الصحة العامة و العلاج بالأعشاب و كل شيء، و الأغرب أن فكرة تطوير التخصصات التي علي اساسها قامت تجربة التعليم الحديثة تكاد تكون معدومة في بلادنا. فمن السهولة ان تجد آلاف الورش تتحدث عن الشأن العام، و ما ندر ان تسمع بمؤتمر اكاديمي تخصصي لأصحاب المهنة. اما اذا اردنا أن نعرف لما هنالك وفرة و ليس قلة في ميلاد مبادرات لا تستمر فلنعلم أن السبب في الفرد الذي بأمكانه العمل و الدفع بمبادرة موجودة بدلا من تأسيس مبادرة جديدة، وهو ما يعرف بعقدة المؤسس، فبعضنا في حاجة الي التفرد حتي و ان كان لا يضيف جديدا نوعا او كيفا.
ثالث التجليات التبسيط و الاستخفاف بتجويد سبل كسب المعرفة، فلا ادري من أين يأتي بعض الناس باليقين الذي يجعلهم يتحدثون في قضايا عامة في قمة التعقيد من غير امتلاك الأدوات المعرفية الكافية أو القيام بواجب التمعن و التدقيق أو حتي الاضطلاع بالواجب الاكاديمي الأولي في فهم السياق و العلاقات، و لا يتورع البعض في افتراض أن تصوراتهم التي هي ليس الا نزعات ذاتية علي انها مرجعية متكاملة لا يمكن مساءلتها. المفيد في التفكير العقلاني و منتجاته العلمية انه قابل للتجريب و الاختبار، اما في حالنا فيخلط البعض منا بين مشاعرهم و أفكارهم و مواقفهم و آرائهم، فللكل الحق في التعبير عن شعورهم و للكل الحق في تبني أفكار و اتخاذ مواقف تتواءم مع افكارهم أما الرأي الذي لا يقوم علي حجة خارج مرجعية الذات فيجب التعامل معه كمحض تحيزات ذاتية، أما الأصرار علي أنها صحيح مطلق فهذا ما يقود الي الفشل في العمل الجماعي اذ تتقلص مساحة ما هو موضوعي وقابل للفحص امام ما هو ذاتي و مغلق.
خلاصة القول، طالما أننا نعيش هذا التناقض الذي يقارب حالة ثنائية الضمير Double Conscience التي تحدث عنها العلامة دو بويز Du Bois في وصف حالة الامريكان من أصول افريقية في علاقتهم مع بلد استعبدتهم بالقانون ثم قالت لهم لاحقا انتم مواطنون. فهذه الثنائية تشكل مخيالنا الاجتماعي، فكل الأمور في حياتنا من حوادث حركة وضنك معيشة يراها بعضنا كقدر و مشيئة في حين يردد جمهور منا أن ما يحدث لنا هو نتاج مباشر للعلاقة ما بين أفعالنا و نتائجها، و عليه علينا فهم وتحليل مشاكلنا وفق هذا المنطق العقلاني، و ما لم نخرج من هذه الثنائية و نوطن العقلانية في طريقة تفكيرنا فلن يكون بأمكاننا حتي معرفة أولوياتنا ناهيك عن ترتيبها و سنظل في حالة التنافس في العمل العام بدلا من التكامل و تعظيم الجهود، و الاسوأ غياب المرجعية الموضوعية المشتركة التي تجعل بعض منا يعتقدون ان مجرد خواطرهم هي نواصي للحقيقة.
نشر في صحيفة الديمقراطي
١٨ أبريل ٢٠٢٠