محمد سليمان الشاذلي
(8)
“صديقك دكتور حسن النعمة، العضو اللامع في نادي الجسرة، قال لي في الدوحة إنه كان ينوي إلحاق صلاح أحمد إبراهيم ببعثة قطر في نيويورك التي نقل إليها كمندوب دائم لقطر لدى الأمم المتحدة”.
“لصلاح تاريخ طيب في الدبلوماسية السودانية، كان أحد النابهين الأفذاذ وأظن أن حسن النعمة تحدث معه لكن الأجل كان أعجل إلى صلاح. دكتور النعمة رجل فاضل كنت أزوره كثيرا في الهند التي كان سفيرا فيها. كان دائما كريما وحفيا بي”.
“له قصص لطيفة مع عبد الله الطيب في كامبردج”.
“عبد الله الطيب عالم لا يشق له غبار في الأدب العربي والغربي والدراسات النقدية والفقه وعلوم قراءات القرآن”.
“لقد أثنى عبد الله الطيب على صلاح وشعره رغم عدم تمسكه بالقصيدة العمودية، التي ينصرها عبد الطيب نصرا عزيزا، ولا يرى للشعر العربي معنىً دونها”.
“صحيح، لكن إحسان عباس كان له القِدْح المعلَّى في تشجيع صلاح وعلي المك والتنويه بهما”.
“لكن صلاح وعلي كانا يحبان السودان حبا عظيما. إنهما ليدحضا كلامك عن أن السودانيين لا يحبون السودان!”.
صاح في غضب “ليس في السودان اليوم من يحب السودان. أين علينا اليوم وأين هو صلاحنا اليوم؟”.
ساد الصمت دهرا.
ثم عاد فقال بنبرة كلها أسى “علي وصلاح نجمان قد أفلا سريعا. قدَّم إحسان عباس لهما مجموعتهما القصصية المشتركة (البرجوازية الصغيرة) التي نشرتها بيروت في الخمسينيات. توقف صلاح بعدها عن كتابة القصة وتفرغ للشعر وحسناً قد فعل”.
“ذات مرة قال لي محمد الحسن أحمد إن صلاح ترك منصبه سفيراً في الجزائر وغادر إلى باريس ليستأجر حجرة صغيرة في الحي اللاتيني يعيش فيها حياة الطلبة ويتعلم اللغة الفرنسية! محمد الحسن قال لي إنه قد زاره في تلك الحجرة … كبرياء صلاح لاحت لصلاح أكبر من كل الظروف …”.
قاطعني:
“تلك غضبة مضرية من غضبات صلاح. القصةُ أن النميري أمر بفتح مكتب لجهاز الأمن في السفارات؛ ولما وصل القرار إلى صلاح قال لهم دونكم استقالتي، لقد جئت ممثلا لبلدي لا جاسوساً على أبناء بلدي. ثم إنه استضاف الصادق المهدي وهو في سفارته للسودان، لما كان هذا معارضاً للنميري. فكان أن استقبل الصادق بوصفه سودانيا ورمزا سياسيا وفكريا. كما أني علمت أنه كان قد استضافه في بيته ومن حر ماله لا من مال السفارة، فأقام له وليمة عشاء فاخرة، ولكنه لم يدع أحداً من طاقم السفارة، حتى لا يضعهم في مرمى نيران الخارجية والأمن السوداني”.
“كان صلاح قويا شديد المراس”.
“. سكت لبرهة قصيرة ثم أردف: “لكن خبرته مع موهبته ساعدتانا وساعدتاه في الالتحاق بالسفارة القطرية في باريس”. ثم سكت لبرهة طويلة. ثم سمعت صوت القداحة تقدح فعلمت أن سيجارة سيلكت أخرى قد امتد إليها اللهب، امتدت إليها أصابع الفناء. تخيلت طريقته في إرسال الدخان دوائرَ تتبعها دوائرُ. إنه لمدخن شَرِهٌ يدخن بمتعة وسكون واستسلام تام للنيكوتين. يذكرني بوصفه لذلك البدوي في موسم الهجرة إلى الشمال الذي يطلب من قافلة اللواري المسافرة سيجارة يدخّنُها في نَهَمٍ وتلذُّذ وانتشاءٍ لدرجة التمرغ على الأرض. امتد حبل الصمت لفترة ثم جاءني صوته: “أفلا تذكر أننا أقمنا حفل تأبين لعلي المك في سينما لوميير القريبة من ليستر سكوير؟”
“بلى أذكر. وأذكر أن صلاح أتى من باريس للمشاركة في التأبين”.
“لكن صعب عليه الحديث. بدا وكأنه قد أيقن أنه لا محالة لاحق بصاحبه في أمد قصير”
“وطـأة الحزن كانت قد قصمته قصما هائلا”.
“كان يذكر علياً ويقول ويب لي في قصيدته”.
“ويب عندنا في السودان للنساء يقلنها في بيت البكاء لكنهن يقلن: ووب عليّ”.
“هل تذكر شيئا من رثائه لعلي؟”.
“نعم: فقدنا الذي كان زين المجالس، زين الصحاب، فقدنا شهامته، وفقدنا شجاعته، وفقدنا شهادته، وفقدنا كتابته، ودعابته، والحديث الطلي. حسرتا، ويب لي، ويب لي، ويب لي”
ساعتئذٍ قال لي بصوت متهدّج حزين، وبنبرة باكيةٍ: “ثم لم يلبث أن مات صلاح بعد أشهر معدودات”
“لقد تم دفنه بقرب قبر صديقه الأثير عليٍّ في مقابر حمد النيل في أم درمان”
تنهد بحرقة وأَسىً “أم درمان … آه لقد عشق علي المك هذه المدينة عشقا خرافيا. لم أرَ أو أقابل أحداً أحب مسقط رأسه على النحو الذي فعله علي مع أم درمان. حتى إذا قارنته بجيمس جويس ومدينته دبلن وجدتَ الفرق شاسعا على الرغم من أن جويس كتب ونشر أكثر مما فعل علي”.
“لقد كان آخر من ودعته قبيل سفري. رُزْتُه في مكتبه الذي أطلق عليه اسم (بيلي ذي كيد) في وحدة الترجمة والتعريب بجامعة الخرطوم. قال لي: لا تسافر إلى إنجلترا ولا إلى غيرها. لن تجد مكانا أرحم أو ألطف من أم درمان. لن تجد وطنا غير السودان”.
“كان صادقا مع نفسه على نحو لا يُصدَّقُ. لم يسافر إلا إلى جامعة أو مؤتمر أو فعالية قصيرة. لم يغترب ولم يفكر في اغتراب”.
“صحيح. حتى أن سكنه الجامعي في مدينة بُرِّي كان يَنظُرُ إليه على أنه اغتراب! كان يعبر جسر النيل الأبيض على نحو شبه يومي”.
“الأهم من ذلك هو أنه انخرط في سلك الخدمة المدنية منذ أيام ديوان شؤون الخدمة ولزمه حتى توفاه الله. كان في مقدوره العمل في دولة مثل الكويت أو السعودية أو أي دولة من دول الخليج. لقد آثر السودان ومدينته أم درمان على ما عداهما. أم درمان صنعَتْه وهو على نحوٍ ما صنَعَها. كيف وصفهما صلاح؟”.
“مدينته الآدمية مجبولة من تراب،
يتنطس أسرارها
واثب العين منتبه الأذنين
يحدث أخبارها.
هل يرى عاشق مُدْنَفٌ في الحبيب
أي عيب؟
مدينته البدوية مجبولة من تراب،
ولا تبلغ المدن العسجدية مقدارها،
تتباهى على ناطحات السحاب
بحي سما أصله لركاب،
فاح شذى من “علي”حين غاب”.
ساد صمت ثم جاء صوته: “كلماتٌ معبِّرة غاية التعبير”. سكت لبرهة ثم أردف بغتة: “ربيع حسنين أخبرني أنك تحدثت أفضل مني في حفل تأبينه في سينما لوميير. كنتَ أنت صغيرا جدا ليلتها!”.
شاهد أيضاً
«اليوم العالمي للسكري»: جهود مملكة البحرين للارتقاء بجودة الحياة للمتعايشين مع السكري
كشفت البروفيسور دلال الرميحي استشاري الغدد الصماء والسكري بمستشفى العوالي أستاذ مشارك للطب الباطني في …