عندما كان صغيراً، كانت تستهويه قصص “سيد التسلل” و “ملك التخفي”، الرجل “ذو الألف وجه” المغامر الأنيق حاد الذكاء خفيف الحركة اللص الظريف أرسين لوبين. كما كانت تأسره شخصية المحقق غريب الأطوار شارلوك هولمز الذي كان بعبقريته وتفكيره المنطقي قادراً على فك شفرات أعقد القضايا الجنائية التي كان يتعذر على كبار محققي عصره الجنائيين حل عقدتها.
كان أكثر ما يعجبه في أرسين لوبين أسلوب سخريته من رجال الشرطة ومن مفتشهم، كبير مفتشي شرطة سكوتلاند يارد “تيل” البدين. وكان أكثر ما يأسره في شخصية المحقق هولمز شخصيته اللامبالية، متبلدة الإحساس حيال كل ما يؤمن به الناس من اعتبارات مجتمعية، في حالة تعارضها مع مقتضيات وظيفته، كما كان يعبر عن ذلك بالقول “لا يهمني القمر في شيء سواء دار حول الشمس أو دارت الارض حوله أم دار هو حولها طالما أن ذلك لا يحدث فرقا في شؤوني الخاصة”.
مرت الأيام وكبر الصغير. وصار حينما يجلس أمام شاشة التلفاز وتمر من أمام ناظريه مشاهد الكوارث والحروب ومناظر الأشلاء الممزقة والدماء المسالة، يظل غير عابئ بما يعرض أمامه من مشاهد، فهو لا يرى فيما يعرض ما يتعارض مع أمره في شيء يستحق الانفعال به أو التفاعل معه.
شاهد في إحدى المرات مقطع فيديو سجله صحفي بريطاني من مكمنه فوق أحد أسطح مباني العاصمة الرواندية كيجالي في أحد ايام الفترة 6 أبريل ومنتصف يوليو 1994م. مشهداً أقل ما يمكن أن يوصف به أنه كان بشعاً ومروعاً.
كانت هنالك في قلب مسرح الأحداث امرأتان راكعتان وسط أشلاء آدمية ممزقة، وجثثاً متناثرة على جانبي أحد الطرق الترابية. بدت إحدى المرأتين تتوسل وهي شابكه يديها أمام جسدها وكأنها تصلي، ثم باعدت بين ذراعيها في حركة تضرع وتوسل وهي في موضعها ذاك، وسط حشود الرجال الذين كان يعج بهم المكان، وهم يتدافعون في كل الاتجاهات حاملين المدى والسكاكين والعصي.
هناك على المدى كانت تنتشر جثث أخرى لأولئك الذين تم سحبهم من مساكنهم وقتلهم على قارعة الطريق. استمرت المرأة في التضرع والتوسل وسط حشود الرجال الذين كانوا يتدافعون في كل الاتجاهات غير عابئين بها وبرفيقتها كما يبدو من المشهد. مر صبي يرتدي “تي-شيرت” بجانب المرأة المتوسلة، وحدجها بنظرة جانبية ثم مضي.
برز رجل من بين الجموع وهو قابض على شيء بيده اليسرى، تبين بشيء من التحديق أنه جهاز راديو. مرت اللحظات والدقائق والمرأة في تضرعاتها وتوسلاتها تلك بينما ظلت رفيقتها قابعة بجوارها تنتفض بعنف من الخوف. بدأ بعض الرجال الذين يحملون المدي والسكاكين والعصي في هذا الأثناء يضربون على الجثث المتناثرة بعنف وتشف، المرة تلو الأخرى. قام أحد الرجال بضرب إحدى الجثث ضربة من يدفع بوتد إلى باطن الأرض، ثم علق عصاه على كتفه وواصل سيره متمهلاً، غير عابئ بشيء وكأنه في نزهة. كانت المرأة المتوسلة طوال تلك الفترة، تحرك ذراعيها في حركات ضراعة لحوحة.
اقتحمت شاحنة بيضاء اللون مسرح الأحداث، وممسحة زجاجها الأمامي تتحرك بعنف يمنة ويسرى، عبرت الشاحنة سريعاً مبتعدة عن مسرح الأحداث دون أن تهدئ من سرعتها بعد أن قام أحد الرجال الذين كانوا محتشدين في صندوقها الخلفي بإلقاء تحية مهينة للمرأة التي كانت لازالت مستغرقة في تضرعاتها وتوسلاتها إنقاذاً لحياتها.
أخيراً اقترب رجلان من حيث تقبع الامرأتان، وأتى الذي كان مرتدياً بنطالاً داكناً وقميصاً أبيضا، بحركة من يهم بضرب بهيمة أو حيوان بعنف وقوة. انكمشت المرأة، فعالجها الرجل على رأسها بضربة قوية من عصاه التي كان يمسك بها في يده اليمنى. هوت المرأة إلى الأرض، وتوالت الضربات القاتلة على جسدها مرات ومرات. في ذات الأثناء تقريباً، أطاح المهاجم الآخر بالمرأة الأخرى وبدا رأسها وكأنه على وشك الانفصال عن جسدها الممدد على الأرض من تأثير الضربة الأولى. بعد انهيا مهمتهما تحرك الرجلان بعيداً، غير مبالين بالجثتين اللتين خلفاهما وراءهما غارقتين في دمائهما.
في ذات هذا الأثناء أخذ صاحبنا القابع أمام التلفاز يشاهد ما جرى من أحداث رشفة من فنجان كان موضوعاً أمامه دون أن يساوره أدنى إحساس مما يساور الإنسان العادي تجاه ما شاهد من أحداث، ربما حدث ذلك بإيحاء من شخصية المحقق اللامبالي متبلد الإحساس الكامن في أعماقه منذ الصغر.
يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: “نحن ندين للأحياء بالاحترام والتقدير أما الموتى فلا ندين لهم بشيء سوى الحقيقة”. وانطلاقاً من هذا القول فإن صاحبنا هذا بلامبالاته هذه لم يأخذ بأي من هاتين النصيحتين.
في العام 2007 صدر كتاب “الإعلام والتطهير العرقي في رواندا” لمحرره ألان طومسون. استعرض الكتاب الدور الذي لعبه الإعلام في التمهيد والمشاركة في جرائم التطهير العرقي التي حدثت في رواندا، ودور الإذاعة والصحف الرواندية التي استخدمت كأدوات لنشر الكراهية، مما أدى إلى مقتل ما يزيد عن نصف مليون رجل وطفل وامرأة.
استعرض الكتاب أحكام محكمة الجنايات الدولية الخاصة بهذه الجرائم، والأحكام التي تراوحت ما بين السجن 35 عاماً والسدن المؤبد في حق ثلاثة صحفيين ثبت تورطهم فيها بالرغم من أن المقالات التي حررها أحد هؤلاء الصحفيين قد نشرت قبل وقوع الأحداث بعدة سنوات، إلا أن المحكمة اعتبرتها مسؤولةً عن خلق مناخ ونزعة سيكولوجية وسط الشعب الرواندي مكنت من حدوث جرائم التطهير العرقي.
الكتاب يكشف بوضوح خطورة الإعلام وتأثيره، سواء كان ذلك في هيئة روايات وقصص كقصص أرسين لوبين أو المحقق هولمز، مضت عليها سنوات وسنوات أم كانت في هيئة صحف وفيديوهات كما في حالة الإعلام المحلي الرواندي والإعلام الأمريكي في حرب العراق، أم في شكل “لايفات” مباشرة كما حدث ويحدث حالياً في حرب السودان. ترى ما هو الدور الذي لعبه الإعلام والإعلاميون السودانيين فيما جرى ويجري حالياً في السودان؟
تُعرِّف اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية لسنة 1948، جريمة الإبادة الجماعية بأنها ”أياً من الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية“؛ وإلحاق أذى جسدي وروحي خطير بأعضاء من الجماعة؟ وإخضاع جماعة عمداً لظروف معيشية بهدف تدميرها مادياً كلياً أو جزئياً؛ ونقل أطفال من جماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى؟
فهل وقعت أي من هذه الأفعال في السودان؟ إذن وقعت جريمة إبادة جماعية في السودان. السؤال: هل أسهم أي من إعلاميي السودان وغير السودان في ارتكاب أي من هذه الأفعال التي أدت إلى هذه الجريمة؟
الإسهام قد يكون بكلمة، (بس كلمة) وأسالوا ابن البادية رحمه الله عن مدى مفعولها؛ أو بضعة كلمات، ولو تلميحاً، وأسالوا الأصمعي عن ذلك، وهو الذي قال: واستبدت مرة واحدةً *** إِنما العاجز من لا يستبد؛ ففهم الرشيد مراده، فقال: والله لا ستبدن والله لا ستبدن، ثلاثًا، فما لبث البرامكة إِلا قليلًا حتى قتلهم. أو مجرد هتاف كقولهم “كنداكة جات بوليس جرى”، وهو قول يسخر من رجل القانون ويهز من هيبته، وهي سخرية ليست كسخرية اللص الظريف أرسين لوبين من المفتش “تيل” البدين، مطلوبة في ذاتها بغرض الإثارة. أو قد يكون الإسهام صراحاً بواحاً كذلك الفيديو المباشر الذي تم بثه قبل أيام من أحداث الجنينة والتي أدت إلى مقتل واليها الشهيد خميس أبكر.
جلست أيام الدراسة بجامعة هلسنكي الفنلندية إلى صديقي البنقالي شونيل، فشكى لي شعوراً بالدوار وبكأن عينيه قد غامتا وبرجليه لا تكادان تحملان الجسد. ثم أردف قائلاً، هذا الإحساس ينتابني في كل الأوقات التي يغيب فيها القمر. لكنه زاد عن حده المعتاد هذه المرة ربما لأن وزني هو أيضاُ قد زاد عن المعتاد، ثم أضاف أن درجة وكثافة الشعور بتأثير القمر يتناسب طرداً مع كتلة الجسم، فذوي الأجسام الثقيلة يقاسون منه أكثر من ذوي الأوزان الخفيفة.
رغم ما استقر في ذهني من أيام الدراسة الباكرة من أن سقوط تفاحة على الارض يتأثر، ويؤثر بدوره في وضع القمر، الا انه لم يكن ليطرق ذهني أن يكون تأثير القمر على الأجسام الحية بالنوع والمقدار الذي يحس به صديقي شونيل. حتى في علوم الفيزياء يعد تأثير القمر على الأجسام بالغ الصغر، ويتم تجاهله في معظم التطبيقات العملية. بالرغم من ذلك شعرت بميل عفوي نحو تصديق فرضية صديقي شونيل، حتى قبل أن أتبين المنطق البسيط والواضح الكامن في طيات حديثه وعمق فرضيته أن الأجسام ليست كلها متماثلة في استجاباتها لللتشويشات الخارجية، فشتان ما بين شارلوك هولمز مثلاً وصديقي شونيل. وشتان ما بين استجابات الناس لما يجري من أحداث حالياً في السودان.
كانت تلك قراءات بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.
تضرعاتي بحسن الختام؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني