الخميس , نوفمبر 21 2024
أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
الضحك

سلسلة تجارب إدارية دروس وعبر

الحلقة (1)
د. عبد العظيم ميرغني
• كان الاعلام في مقدمة اهتماماتي حينما كنت مديراً عاماً لهيئة الغابات، وذلك إدراكاً مني من أن الإعلام هو الوحيد القادر على جعل الهيئة تبدو أكثر حيوية وجذباً للانتباه لتبليغ رسالتها والتبصير بقضاياها، ولأن للإعلام كذلك تأثير على الرأي العام يفوق تأثير القوانين في غالب الأحيان.
• لكن بقدر ما للإعلام من تأثير إيجابي فهو له تأثير سلبي لأ نه هو أيضاً سلطة، كما الملوك والرؤساء والسلاطين، يسري عليه ما يسري عليهم من أقوال السلف ووصاياهم بأن ينأى المرء بنفسه عن التقرب منهم بقدر الإمكان؛ وأن أظهروا له المزدة وقرَّبوه إليهم فليحذر انقلابهم عليه، وهذا ما لم أتحسب إليه في تعاملي مع صاحبة الجلالة حتى حدث ما حدث.
• بدأت الحكاية صغيرة ككرة الثلج، ما لبثت أن تدحرجت فكبرت وتضخمت مع توالي الأحداث حتى أصبحت قضية، قضية رأي عام. كانت البداية بخبر يتيم تداولته بعض المنتديات السودانية الاسفيرية في حوالي منتصف نوفمبر 2005م قبل أن تتلقفه الصحافة الورقية وينتشر كما النار في الهشيم ويتصدر الأخبار.
• نقلت بعض صحف الخرطوم، ومن بينها الصحيفة “بطلة” هذه الأحداث التي نحن بصددها ذلك الخبر، وأجرى أحد محرريها تحقيقاً حوله بتاريخ الخامس من ديسمبر 2005م. ذكر فيه أن بعض المصادر رشحت أن يكون لوزارة الزراعة والغابات صلة به. وبحكم صلتي بالصحيفة التي كنت متعاوناً معها في نشر مقالاتي الأسبوعية وقتذاك اتصل بي هذا المحرر طالباً مني التعليق على الخبر ومضمون التحقيق.
• بعد استرجاع الأحداث، تبلورت الحكاية في ذهني على النحو التالي: جاء شخص قبل بضعة أسابيع يحمل إليَّ مظروفاً من مكتب وزير الزراعة. ولما كنت منشغلاً ببعض المهام الأخرى، أحلته بمظروفه لمن كان يليني في الوظيفة والذي وجد أن الموضوع ذو شقين، شق يتعلق بالتشجر أوصى بقبوله، وشق يختص برئيس اللجنة القومية الفنية المختصة بالمدخلات الزراعية في رئاسة الوزارة فأوصى بإحالته إليه.
• كانت تلك هي خلاصة الموضوع فيما يلينا نحن في الغابات. ولتقديري أن كشف الحقائق في حينه هو الأنسب لقطع الطريق أمام أي استغلال للموضوع فيما ليس فيه صالح العام، ولثقتي في سلامة موقف الوزارة والهيئة فيما اتخذ من إجراءات لحدث لم يحدث في الأساس؛ ونزولاً لنص المادة (24/2) من قانون الصحافة لسنة 1999م الذي كان سائدا حينذاك بأن من واجب كل موظف عام ممن في حيازته معلومات عامة تتعلق بالدولة والمجتمع إتاحة تلك المعلومات للصحفيين ما لم يكن قد سبق تصنيف نلك المعلومات كمادة غير قابلة للنشر. أوصيت في خاتمة مذكرة رفعتها للوزير وسلمتها له باليد بتوضيح هذه الحقائق للرأي العام رداً على اتهام الصحيفة الموجه لوزارته. وفي ذات الوقت أفضيت لذلك المحرر بما حوته المذكرة، ولم أتوانى في تزويده بنسخة من المكاتبات المتعلقة بموضوع الخبر الضجة. هكذا ظننت أنى قد فعلت حسنا حتى استبان لي الأمر، على قول دريد بن الصمة، في ضحى الغد.
• صدرت الصحيفة في اليوم التالي (السابع من ديسمبر 2005م) وعلى صفحتها الأولى “مانشيتات” رئيسة تزف أخبار حصولها (من مصادرها الخاصة) على الحقائق الكاملة لـ”الجريمة” التي تضمنها الخبر مثار إهتمام الرأي العام.
• في اليوم التالي احتفت غالبية الصحف والصحفيين بالخبطة الصحفية المزلزلة لهيئة الغابات ووزارتها، ولضبطهما متلبسين بجريمهم. وانهالت التهاني على الصحيفة من كافة الجهات. وقد كتب رئيس تحرير إحدى الصحف في افتتاحية صحيفته: “شكراً للزملاء في صحيفة (,,,) على الجهد الصحفي الرائع الذي قاموا به حتى اكتملت أمامنا واضحة أركان الجريمة”. هكذا وجدت نفسي مصدراً صحفياً خاصاً في قضية صرت أنا المتهم الأول فيها، كل ذلك وصديقي الصحفي، محرر الصحيفة، صامت ولم يفتح الله عليه ببنت شفه لأنه هو نفسه نال نصيباً وافراً من التهاني بالسبق الذي حققه.
• أخذت الأحداث بعد ذلك منحى حملة إعلامية شاملة. تنافس فيها ناشطو الجمعيات الطوعية في تسعير نيرانها، وتبارى كتاب الأعمدة ورؤساء تحرير الصحف في إبرازها تحت عناوين مثيرة، وتفنن رسامو الكاريكاتير في تناولها. وسال مداد غزير على أودية الصحافة السودانية. وكان ما إن تهدأ الحملة قليلا حتى تنشطها بعض الأقلام تحت عناوين من شاكلة: موضوع (…..) لماذا تناسيناه؟
• تفاعلت الوزارة مع الحملة الإعلامية بردود أفعال متصاعدة. بدءاً بإصدارها ما أسمته توضيحاً صحفياً نشرته الصحيفة بتاريخ 8 ديسمبر 2005م، ثم عقدها مؤتمراً صحفياً أوضحت فيه سلامة موقفها. ثم ما إن ارتفعت بعض الاصوات مطالبة بإجراء تحقيق، حتى خرجت غالبية الصحف في 17 ديسمبر 2005م بـ”مانشتات” رئيسة تحمل تصريحاً للوزير نقلاً عن وكالة سونا للأنباء، بالبدء في إجراءات التحقيق.
• تضمن تصريح الوزير إشادة باهتمام وسائل الإعلام بالقضية، ودعوة لها للتنبيه لأي ممارسات أو مخالفات مماثلة تحدث كهذه في المستقبل. كان في هذا التصريح، تحول نوعي واضح في موقف الوزارة تجاه الخبر الذي أصبح قضية، من الإنكار المتكرر بعدم وجود قضية في الأساس، إلى التأكيدات بسلامة الإجراءات الإدارية التي اتخذتها الوزارة بشأنه، إلى اعتراف صريح بوقوع (جريمة) وتورط الوزارة فيها ستجري فيها تحقيقات. هكذا أعفى الوزير نفسه من أي مسؤولية تجاه هذه القضية، وتجاه منسوبيه ممن حكم عليهم مسبقا –بتصريحه هذا- بالإدانة، قبل إجراء التحقيق.
• في صبيحة اليوم التالي (18 ديسمبر 2005) لتصريح الوزير تلقيت وزميلي الذي يليني في الوظيفة في الغابات طلب استدعاء إلى مباني جهاز الأمن والمخابرات الوطني حيث تم التحقيق معنا حول القضية. بعدها بيوم (19 ديسمبر 2005) عقد مجلس إدارة الهيئة جلسة استثنائية للتحقيق في الإجراءات التي اتخذتها الهيئة في هذه القضية. وبناء على ذلك أصدر المجلس بياناً أوضح فيه سلامة موقف الهيئة وصحة ما اتبعته من إجراءات في تلك القضية والمتمثلة في مكاتبتين تتعلق بالتشجير.
• في 24 ديسمبر 2005م صدر القرار الوزاري المرتقب (رقم 34 لسنة 2005) بتشكيل لجنة تحقيق برئاسة وكيل وزارة العمل والخدمة العامة، وعضوية كل من نائب المراجع العام وممثل النائب العام وممثل وزارة الزراعة للتحقيق في القضية التي حصرها في المكاتبتين المتعلقتين بالتشجير اللتين كانت قد حررتهما الهيئة، بينما استثنى القرار اثنتي عشرة مكاتبة أخرى متعلقة بالمدخلات الزراعية التي هي من اختصاص وكيل الوزارة. وكما كان التحقيق انتقائياً فيما يختص بالمكاتبات، كان انتقائياً كذلك فيما يختص بالموقوفين عن العمل، باقتصاره على شخصي (مدير الغابات) وعلى مدير المكتب الوزاري.
• تصديقاً للقول الساير “الأخبار السيئة تنتشر بسرعة”، فما إن صدر قرار التحقيق والإيقاف حتى تصدر اسمي الصفحات الأولى لصحف الخرطوم التي صدرت في اليوم التالي لصدوره. كان وقع الأخبار التي كانت تتداولها الصحف حول هذا التحقيق قاسياً ومؤلماً بشكل بالغ علينا نحن الموقوفين عن العمل على ذمة التحقيق. وقد كان الأمر أشد قسوة وألماً بصفة خاصة على مدير المكتب الوزاري، ففي حين كنت انا أجد المؤازرة والمواساة من مجلس إدارة الهيئة وعامليها ونقابتهم الفرعية والعامة الذين أصدروا جميعاً بيانات مساندة لي بجانب ما ابداه جموع العاملين بالغابات ممن أعرف شخصياً ولا أعرف من تعاطف معي، كان زميلي في التحقيق هذا لا يجد منن يقدم له الدعم المعنوي. وكنت أحاول من حين لآخر أن أسري عنه ببعض الأمثال والأقوال السائرة والآيات القرآنية، من شاكلة “ولا يحزنك قولهم”، و “الما أكلتو ما بخنقك”، وهكذا.
• كانت أشعر بغضب عظيم وقتذاك بجانب ما كنت أشعر به من ألم ومرارة مما جرى وما كان يجري، ولم ألبث أن نفست عن مشاعري تلك في خطاب بعثت به للوزير، بيَّنت له فيه اضطراري لمخاطبته لعدم إتاحته الفرصة لي لمقابلته. وقد وصف الوزير خطابي هذا إليه في اجتماع مع مجلس الإدارة، بالمتشدد والحاد في لهجته. هذا في حين بررت أنا الأمر للمجلس بأن الخطاب لم يخرج عن أسلوب التخاطب بين مرؤوس ورئيسه تحت تأثير وضع متأزم.
• في الأسبوع الأول من مارس 2006 أي بعد شهرين ونصف الشهر من الموعد المحدد لانتهاء التحقيق بموجب قرار تكليف اللجنة، رفعت اللجنة تقريرها للوزير، الذي أعلن نتائجه في حفل أقامه العاملون برئاسة الهيئة القومية للغابات، والذي خلص إلى براءة مدير عام الغابات، مع الإشادة بتعامله مع القضية لما ثبت في التحقيق من أن تعامله مع القضية كان “سليماً ومؤسسياً” حسبما جاء في تقرير اللجنة بالنص. كما أوصت اللجنة بإعادة مدير المكتب الوزاري لموقعه.
• مما يحمد للوزير شجاعته باعترافه في الكلمة التي ألقاها في الاحتفال بأنه كان موقناً منذ البداية ببراءتي، ولكن تحول القضية إلى قضية ذات طابع سياسي، وما صاحبها من أقاويل وهجمة إعلامية على الوزارة دفعه لأن يفعل ما فعل. وقد أبرزت شهادته هذه معظم الصحف الصادرة في 8 مارس 2006م؛ وصحف ألوان 18 مارس 2006م و19 مارس 2006م؛ الوطن 20 مارس 2006م؛ الحياة 19 مارس 2006م؛ صحف الخرطوم وألوان والحياة والوطن الصادرة بتاريخ 19/20 مارس 2006م).
• هكذا انتهت تلك القضية بالنسبة لي. وكما يقال فإن “الأمور بخواتيمها” وأن “خير الأمور أحمدها مغبة”. بالرغم مما خلفته محنتها على شخصي كموظف قيادي في الغابات من آثار سالبة إلا أنني أخذت أردد: “تعالوا نجدد دارس العهد بيننا.. كلانا على هذا الجفاء ملوم”.
فما الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه الحكاية؟ نتابع في الحلقة القادمة.
تضرعاتي بحسن الخلاص، وتحياتي؛

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

«اليوم العالمي للسكري»: جهود مملكة البحرين للارتقاء بجودة الحياة للمتعايشين مع السكري

كشفت‭ ‬البروفيسور‭ ‬دلال‭ ‬الرميحي‭ ‬استشاري‭ ‬الغدد‭ ‬الصماء‭ ‬والسكري‭ ‬بمستشفى‭ ‬العوالي‭ ‬أستاذ‭ ‬مشارك‭ ‬للطب‭ ‬الباطني‭ ‬في‭ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا