الخميس , سبتمبر 19 2024
أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
الضحك

قراءة في فلسفة العلم الكئيب

“العلم الكئيب” وصف أطلقه المؤرخ الأسكتلندي “توماس كارلايل” على علم الاقتصاد، بسبب مقال للاقتصادي الإنجليزي “روبرت مالتوس عام 1798م، يقول فيه: أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية، بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية، مما يؤدي حتماً إلى نقص الغذاء.
هذه الفكرة هي فكرة بديهيه وقديمة سبقه عليها الإيطالي “بوتيرو” عام 1589م، وخطيب الثورة الفرنسية الشهير “ميرابو” عام 1756م، الذي قال: إن الناس يتكاثرون بمعدل يتناسب وتوفر ضروريات الحياة، مثلما تتكاثر الفئران في مخزن الحبوب”. لكن ما دامت أنها بديهية وقديمة فلماذا أحدثت كل تلك الضجة عندما قال بها مالتوس، حتى وصفها كارل ماركس بأنها سبَّة في جبين الإنسانية، ووصف بسببها “كارلايل” علم الاقتصاد بأكمله بالعلم الكئيب؟
الإجابة على هذا التساؤل تولاه عالم الاقتصاد المصري الدكتور جلال الدين أمين في كتابه “فلسفة علم الاقتصاد”، الذي بحث فيه تحيزات الاقتصاديين، والأسس غير العلمية التي يقوم عليها علم الاقتصاد، إذ يعتقد الدكتور جلال الدين أن علم الاقتصاد يحتوي على كثير من المقولات التي لا تكتسب مكانتها من دقة أو صحة وصفها للواقع، أو اكتشافها لشيء لم يكن معروفاً من قبل، بقدر ما تكتسبها من مجاراتها لبعض الأهواء والمصالح التي لا علاقة لها بالعلم. ويدلل على ذلك بجملة تحيزات ارتبطت، ولا تزال، بنظرية “مالتوس” في السكان، والتي أثارت حولها كل ذلك الضجيج والجدل.
يذكر الدكتور جلال الدين من تلك الأهواء والمصالح، أولاً، حسب قوله نظرة “مالتوس” المتشائمة وتخوفه من الزيادة غير المسبوقة في السكان التي شهدها عصره، والتي لم ينجح في تهدئتها ما شهده عصره من تقدم تكنولوجي وطفرة غير مسبوقة في إنتاج الغذاء. والتشاؤم موقف شخصي، ومتحيز بالطبع يقول الدكتور جلال الدين.
ثانياً، ما تنطوي عليه نظرية “مالتوس” من انحياز للموقف المحافظوالمضاد للموقف الثوري من قضية الإصلاح. فقد صدر كتاب “مالتوس” في جو يسوده التخوف لدى الإنجليز من أن تمتد رياح الثورة الفرنسية (1789م) إلى بلادهم. فكان هدف “مالتوس” من إصدار كتابه هو توجيه ضربة قاصمة لأي دعوة للثورة، وإثبات استحالة الإصلاح عن طريق الثورة، إذ ما جدوى أي ثورة إذا كان من المحتم أن يزيد السكان بمعدل أسرع من معدل زيادة المواد الغذائية؟ وأي أمل في تحسين أحوال الناس، بالثورة أو بغيرها، طالما لم يكبح الناس ميلهم للتكاثر بمعدل متسارع؟
ثالثاً، ما تنطوي عليه نظرية “مالتوس” من تحيز طبقي لصالح المستفيدين من الوضع السائد آنذاك، فنظرية “مالتوس” ارتبط ظهورها بتسارع الثورة الصناعية في إنجلترا مثلما ارتبط بأحداث الثورة الفرنسية. وقد اقترنت هذه الثورة كما هو معلوم بتصاعد حدة الاستقطاب بين الثراء والفقر. وكان من الملائم جداً للأثرياء أن يقدِّموا تفسيراً آخر لفقر الفقراء، غير خضوعهم للاستغلال الرأسمالي.
هذا هو بالضبط التفسير الذي قدمته نظرية مالتوس في السكان. فانخفاض مستوى معيشة غالبية السكان لا يرجع -طبقاً للنظرية- إلى استغلال الرأسمالي للعمال، بل يرجع إلى ارتفاع معدل المواليد، ولا فائدة ترجي في المدى الطويل من دفع أجور أعلى للعمال، إذ أن ارتفاع الأجور لا بد أن تواكبه زيادة في عدد المواليد مما لا بد أن يعود بمستوى المعيشة إلى مستوى الكفاف. بل لا فائدة من تقديم الدعم للفقراء في الأصل، إذ أن الإحسان لهم -وإن كان ظاهره الرحمة- إلا أن باطنه القسوة والعذاب.
لقد نشأ علم الاقتصاد –يقول الدكتور جلال الدين- في ظل ظروف معينة، أكسبته تحيزات وأهواء اجتماعيه وطبقية ليس لها أي علاقة بحياد وموضوعية العلم كما نفهمه، وهي تحيزات لا يزال علم الاقتصاد يتسم بها حتى الآن. ويدلل الدكتور جلال الدين على ذلك، بالآتي:
أولاً، الميل القوي لدى الاقتصادي إلى افتراض العقلانية، أي افتراض أن الإنسان في سلوكه الاقتصادي، مستثمراً أو منتجاً أو مستهلكاً، لا يحتكم إلا لمقتضيات العقل، فهو يقارن بين منافع كل خيار ممكن وبين نفقاته أو أعبائه، ويتخذ الخيار الذي يحقق أقصى نفعٍ صافٍ، بعد طرح النفقات والأعباء، وكأن هذا “الإنسان الاقتصادي”، هو إنسان مجرد من أي دوافع أو عواطف وتاريخ ووطن وأسرة، وأن كل همه هو تعظيم الفارق بين عوائده ونفقاته!
ثانياً، الميل القوي لدى الاقتصادي إلى افتراض أن “الأنانية” ودواعي المصلحة الخاصة هي المحرك لسلوك الإنسان الاقتصادي. ويتغافل الاقتصادي أن المرء كثيراً ما يختار سلوكاً معيناً، ولو أنه يحدث بعض الضرر به شخصياً، لمجرد أنه في صالح شخص آخر أو جماعة يهمه أمرها، ويريد خدمتها، أو بسبب اعتناقه لمبدأ يؤمن به. إذا كان هذا صحيحاً فليس هناك، فيما يبدو، ما يجبر الاقتصادي على افتراض الأنانية كمحرك للسلوك الاقتصادي، اللهم إلا تحيزات وأفكار مسبقة اكتسبها علم الاقتصاد في فترة نشأته الأولى مع بزوغ الرأسمالية الصناعية، حينما رحبت البرجوازية الصاعدة بأي نوع من الكتابة يعيد رسم العالم فيجعله يتخذ صورة البورجوازي الصاعد نفسه، بكل بواعثه وطموحاته.
ثالثاُ، يفترض الاقتصادي أن سعي المرء لتحقيق مصلحته الخاصة يؤدي دائماً إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع ككل. أي أن “الرذائل الخاصة منافع عامة”، فالرجل الثري حين ينفق ماله على ملذاته الخاصة، لا يستهدف بذلك إلا إشباع حاجاته الخاصة التي قد تكون محض رذائل، ولكنه يخلق بهذا الإنفاق فرص عمل جديدة للعمال المتعطلين، وهي نتيجة مفيدة لغيره لم تكن قط هدفاً من أهدافه. وقد هيأت مثل هذه الأفكار أذهان الناس لقبول أفكار جديدة مثل: “دعوا الناس يتصرفون بحرية، ولا تحاول كبح جماح الباعث الخاص، فإنك إذا فعلت هذا تضر بمصلحة المجتمع ككل”. وهذه الفكرة هي في الحقيقة أحد الأركان الأساسية التي قام عليها الفكر الرأسمالي بأسره، ولا يزال يستند عليها حتى اليوم، ولكنها ليست الفكرة الأقرب إلى “العلم”.
كانت تلك قراءة في كتاب “فلسفة علم الاقتصاد” لعالم الاقتصاد المصري الدكتور جلال الدين أمين.
تضرعاتي بحسن الخلاص، وتحياتي؛

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان

حوار مع ذكاء اصطناعي بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية

أنا: السلام عليكم، شفت عنوان حوار اليوم؟ هو: يبدو لاذعاً وممتعا! فيه لمسة من الدعابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا