•في مايو 2022، استضافت كوريا الجنوبية مؤتمر الغابات العالمي، أكبر احتفالية في مجال الغابات، والتي تنظمها الفاو كل ست سنوات. كان من أبرز أهداف الكوريين من عقد هذا المؤتمر الذي حضره عشرات الآلاف من ممثلي الدول والمنظمات والقطاع الخاص والأفراد والفعاليات الشعبية، هو فخرهم واعتزازهم بتجربتهم في مجال الغابات ورغبتهم في أن يشهدوا العالم أجمع عليها.
• يمكنني، بالاستعانة بفكرة الأحداث المتزامنة ومنطق “الضد يظهر حسنه الضد”، يمكنني استعراض هذه التجربة الكورية فيما يلي:
• في خمسينيات القرن الماضي عندما نال السودان استقلاله وكانت الغابات فيه تغطي 36% من إجمالي مساحة أراضيه، كانت كوريا قد تخلصت للتو من قبضة الاحتلال الياباني (1910–1945) وخرجت منهكة من الحرب الكورية (1950–1953)، بعدما فقدت جميع غاباتها تقريبًا خلال تلك الفترة.
• حاليًا، وبعد مرور سبعة عقود، تغطي الغابات في كوريا 65% من إجمالي مساحة الأراضي، ويبلغ متوسط مخزون الأشجار النامية في كوريا 165 مترًا مكعبًا/هكتار، أي أعلى بنحو 29 ضعفًا مما كان عليه في عام 1953. وفي المقابل، تقلصت مساحة الغابات في السودان إلى 15.8% من أراضيه، التي تقلصت بدورها بنسبة 25% نتيجة انفصال الجنوب.
• لقد ظل الكوريون خلال العقود السبعة الماضية، يمارسون فضيلة غرس الأشجار بمعدل عشرة أضعاف ما يزيلونه منها، لتصبح غاباتهم رمزًا للتعافي والنهضة الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، كانت سياسات السودان تجاه غاباته تحمل طابعًا مختلفًا، حيث تغلب عليها الإهمال وغياب التخطيط المستدام.
• الفارق لم يكن فقط في السياسات البيئية، بل تجلّى أيضًا في اختلاف الأولويات الوطنية والثقافة المجتمعية. أدرك الكوريون منذ البداية أن استعادة غاباتهم ليست مجرد قضية بيئية، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وسياسية. كانوا ينظرون إلى كل شجرة تُغرس على أنها استثمار طويل الأمد في استقرارهم البيئي والغذائي والمائي، وجزء لا يتجزأ من مشروعهم الوطني لبناء بلد قوي ومستدام.
• في السودان، عانت الغابات من الإهمال المتعمد نتيجة ضعف الوعي بقيمتها وقلة الالتزام بتنميتها وحمايتها. ومع تضاعف أعداد السكان وتوسع الأنشطة الزراعية والصناعية بشكل غير مستدام، تراجعت الغابات بشكل كارثي. حتى المبادرات التي أُطلقت كانت ضعيفة التأثير لافتقارها إلى التخطيط طويل الأمد والموارد الكافية.
• المقارنة هنا ليست فقط في الأرقام والنسب، بل في فلسفة التعامل مع الموارد الطبيعية. الكوريون لم ينتظروا الظروف لتتحسن، بل صنعوا ظروفهم بإرادة جماعية راسخة. أما في السودان، فقد انشغلنا في أزماتنا اليومية وأهملنا ما يمكن أن يكون أساسًا لمستقبل مستدام.
• الدرس المستفاد هو أن استعادة الغابات ليست مجرد عمل بيئي، بل مشروع وطني يتطلب إرادة سياسية، رؤية استراتيجية، واستنهاض وعي شعبي شامل. فهل سنتعلم من تجربة كوريا الجنوبية قبل فوات الأوان؟ في ظل الحرب الدائرة حاليًا، ما هو حجم الخطر الذي تواجهه غابات السودان؟ وكيف يمكن إنقاذها قبل فوات الأوان؟ الأشجار التي نزرعها اليوم هي من حق الأجيال القادمة علينا، فهل سنرتقي إلى مستوى هذه المسؤولية التاريخية؟
تضرعاتي بحسن الخلاص، وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني