د. سيد تمام
sayedtamam@gmail.com
حقائق تاريخية
ابرم السودان ممثلا في دولة بريطانيا (المستعمرة) في عام 1902 مع أثيوبيا (المستقلة) اتفاقية تنص علي عدم بناء اثيوبيا أي سد على النيل الأزرق وبحيرة تانا يمنع تدفق المياه الي السودان (إلا بالاتفاق)، في مقابل أن يمنح السودان لأثيوبيا ارض تجارية في مساحة 40 هكتار (يقول البعض أنها أراضي بني شنقول)، على أن لا تستخدم هذه الأرض في الأغراض السياسية والحرب. وفي عام 1929 ابرمت بريطانيا المستعمرة والممثلة لكل من كينيا وتنزانيا والسودان ويوغندا مع اتفاقية مصر تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة، وأعطتها حقا مطلقا للاعتراض على أي مشاريع تقام على النيل وروافده، منبع ومجرى. وفي عام 1954، عندما بدأ التفاوض بين السودان ومصر لعرض دراسة خزان الروصيرص للحصول على للموافقة عليه والبحث عن مصادر للتمويل، كانت مصر قد تبنت مصر رسمياً فكرة مشروع السد العالي الذى فوجئ به الوفد السوداني. وفي عام 1959 أبرم كل من السودان ومصر اتفاقية مياه النيل التي قسّمت مياه النيل بينهما حسب الحصص المعروفة تاريخيا (55.5 مليون متر مكعب لمصر مقابل 18.5 مليون متر مكعب للسودان، يستخدم منها حاليا نحو 11 مليار متر مكعب ويذهب الباقي إلى مصر). هذه الاتفاقية وللأسف الشديد، تجاهلت دول حوض النيل الأخرى، الأمر ولد ذلك إحساسا لديها بالتهميش، وتراها (خاصة أثيوبيا) بأنها غير ملزمة بالنسبة لها. وبعيدا عن اتفاقيات مياه النيل بين السودان ومصر، ففي عام 2010 تم توقيع اتفاقية عنتيبي التي تدعو إلى الاستخدام المنصف والمعقول (equitable) لدول حوض النيل. ووقع عليها عددا من دول الحوض هي أثيوبيا وتنزانيا ويوغندا ورواندا ثم لحقت بهم كينيا، وأخيرا بوروندي، بعد طول تفاوض وممانعة، وعارضتها مصر والسودان، وتصر مصر التي على بقاء الحقوق التاريخية والمكاسب من اتفاقيات مياه النيل. يجدر بالذكر أن توقيع السودان وجنوب السودان على هذه الاتفاقية يكمل الدولة الموقعة إلى الثلثين (من 11 دولة) وسيسقط الحصص التاريخية والمكاسب إلى الأبد.
سد النهضة
إن فكرة قيام سد النهضة ليست حديثة، إذ أنها بدأت بدراسة مكتب استصلاح الأراضي الأمريكية (1959 – 1964). والغرض من السد هو تغطية حاجة أثيوبيا من الطاقة الكهربية وتصدير الفائض (للسودان خاصة). تطورت فكرة السد من حيث الاسم والطاقة التخزينية حيث وصمم السد ابتداءً لتخزين البحيرة 5 ملايين متر مكعب فقط من المياه، و أعيد التصميم ليسع 11 مليار متر مكعب، ثم أعيد تصميمه أخيرا ليسع 74 مليار متر مكعب، وكذلك تغير اسمه عدة مرات لينتهي بسد النهضة، بتكلفة تقدر بنحو 4.7 مليار دولار (غالبها تمويل ذاتي من الحكومة أثيوبيا) وتصل أقصى طاقة السد الكهربائية إلى 6000 ميغاوات وبسعة كهربية 2000 ميغاوات في المتوسط. ويقام السد على مساحة تقدر بنحو 1800 كيلومتر مربع وبارتفاع 170 مترا. وكان سبب التأجيل المتكرر لتنفيذ السد طوال هذه الفترة هو عائق الحصول على التمويل اللازم. وتقوم بأعمال المقاولات والتوريد شركات عالمية ذات خبرات كبيرة في تنفيذ السدود حول العالم: شركة سالينى الإيطالية هي المقاول الرئيس، وتقوم بتوريد الكابلات المنخفضة وعالية الجهد شركة تراتوس كافي سبأ الإيطالية كما تقوم شركة الستوم الإيطالية أيضا بتوفير التوربينات.
فاجأت أثيوبيا في عام 2011 دولتي المصب بإعلانها البدء في تنفيذ السد، ولعبت الدبلوماسية الهادئة والذكية التي اتصفت بها دولة أثيوبيا دورا كبيرا في الوصول إلى مبتغاها في شأن سد النهضة، وذلك من حيث العمل على كسب عامل الزمن في التفاوض الذي استمر من عام 2011 وحتى 2015 دعما لسياسة فرض الأمر الواقع (a matter of de facto) خاصة مع تواصل عمليات البناء في السد، وعند توقيع الاتفاقية الإطارية في عام 2015 (حسبما سيتم شرحها لاحق) وصلت مرحلة التنفيذ نحو 40% من المشروع. ومثل ذاك الواقع صدمة كبيرة لدولتي المصب (ويبدو أن عنصر المفاجأة هو ثقافة سائدة بين هذه الدول منذ القدم).
وبالرغم من عقد العديد من جوالات المفاوضات خلال الفترة (2011 – 2015)، إلا أن عددا من نقاط الخلاف ما زالت تراوح مكانها، وهددت مصر عدة مرات باستخدام القوة العسكرية ضد أثيوبيا بقصد إثنائها عن مواصلة بناء السد أو الوصول لنقاط التقاء بين الدول الثلاث. والحرب (وإن كان البعض يراها تهديدا كاذبا ليس إلا) فلها بلا شك أهوالها ومآلاتها التي لا تقوى عليها الدول الثلاث، فقد جربتها وعاشتها واقعا تعيسا بائسا مريرا مؤلما لشعوبها وحكوماتها. فحكومة مصر خاضت حروبها مع إسرائيل منذ العام 1948 وتكبدت خسائر أليمة، ففي حرب أكتوبر 1973 فقط، سقط 8528 قتيلا من المدنيين والعسكريين، وجرح نحو 19500، وتم تدمير 500 دبابة و120 طائرة حربية و15 طائرة مروحية (هذه بخلاف الخسائر السورية)، وأخيرا رجح الرئيس الراحل السادات خيار التفاوض ووقع اتفاقية سلام “كامب ديفيد” في سبتمبر 1978، وتوقفت الحرب وعادت سيناء إلى حضن مصر. كذلك خاضت أثيوبيا حربا ضروسا انتهت بانفصال أرتيريا، سقط خلالها نحو 300 ألف قتيل من الجانبين، وأخيرا وقع أبي أحمد (قائد النهضة الأثيوبية الحالية) وأسياس أفورقي بيانا مشتركا في 2018 أنهى الصراع الحدودي وسنوات من التناحر بين الجارتين. كما أن السودان خاض أطول وأعنف حرب أهلية في جنوبه عرفتها أفريقيا والتي امتدت لنحو نصف قرن من الزمان، وخسر السودان جراء هذه الحرب موارد بشرية واقتصادية أرهقت البلاد وأقعدته من بلوغ غاياته في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث أزهقت فيها أنفس نحو 1.9 مليون ضحية من المدنيين ونزح نحو 4 مليون شخص، وانتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005، وما تبع ذلك من انفصال الجنوب تحت اسم دولة جنوب السودان.
وبالتالي فالحرب (لا سمح الله) لا يمكن أن تكون هي المرتجى أو الحل للخلاف القائم، لمن يحمل عقلا سويا في رأسه وقلبا سليما بين جنبيه. وهنا أقتبس أبيات الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس، والتي ذكر لي أحد الزملاء بأن شخصية سعودية بارزة قد استشهدت بها إبان انطلاق “عاصفة الحزم” في حرب اليمن (بدأت في 2015، وما زالت مستمرة)، إذ يقول أمرؤ القيس:
الحــــرب أول مــا تكــون فتيــــــة *** تسعي بزينتها لكـــل جهول
حتى إذا استعرت وشــب ضرامها *** عادت عجوز غير ذات خليــل
شمطــــاء جزت رأســها وتنكـرت *** مكروهــة للشــم والتقبيــل
يشار إلى أن أبرز نقاط الخلاف الحالية حول السد بين الدول الثلاث، هو تمسك مصر بما تسميه حقها التاريخي والأبدي (perpetuity) بموجب اتفاقية مياه النيل، أي أن تضمن سنويا قرابة ثلثي مياه النيل الأزرق، بينما ترى أثيوبيا قسمة المياه بالتساوي بين الدول المتشاطئة (riparian states). ونقطة الخلاف الثانية هي فترة ملئ السد (بمعنى آخر كمية المياه المستقطعة كل عام لملئ السد)، فبينما تري مصر أن الفترة يجب أن تكون في حدود 7-10 سنوات، ترى أثيوبيا أن تكون هذه الفترة في حدود 3-5 سنوات فقط، حجتها في ذلك أن الملايين من سكانها بحاجة ماسة إلى التنمية، حيث لا تصلهم الكهرباء والمياه النظيفة علاوة على فقرهم المدقع. ونقطة الخلاف الأخيرة تتعلق بمنظومة التشغيل الهيدروليكي التنسيق للسد، حيث تري مصر والسودان إشراكهم المباشر في ذلك، بينما تعتقد أثيوبيا أن مسألة التشغيل شأن داخلي يخصها وحدها.
الاتفاقية الإطارية (إعلان المبادئ)
شكلت الاتفاقية الإطارية لسد النهضة (بمبادرة من السودان) التي تم توقيعها بين رؤساء السودان ومصر وأثيوبيا في مارس من عام 2015، مادة دسمة تناولتها أقلام الساسة والخبراء وأهل الصحافة بالشرح والتحليل والاستنتاج، وذلك لأهميتها الكبرى في لملمة بوادر التصدع في أواصر العلاقات بين الدول الموقعة عليها، هذه العلاقات يقول البعض أنها تاريخيا لم تكن في أفضل حالتها بين هذه الدول. وكما أشرنا وصل تدهور العلاقات لحد تهديد مصر استخدام القوة العسكرية ضد أثيوبيا بقصد إثنائها عن مواصلة بناء السد. الجدير بالذكر هنا أن كون الاتفاقية أنحت جانبا خيار الحرب في معادلة حل قضية السد، وجعلت من التفاوض وليس سواه هو الحل، فهذه محمدة لها لا تقدر بثمن، وتعتبر مكسبا سياسيا للدول الثلاث عامة في كيفية فض النزاعات خاصة في شأن المياه “موضوع الحروب القادمة حول العالم”، وذلك بالرغم من الغموض الذي اكتنف بعض بنودها حسب آراء الخبراء ساعة توقيعها. وفي تقديري أن الاتفاقية الإطارية وبمجرد موافقة وتوقيع رؤساء الدول الثلاث عليها، قد جبت ما قبلها من اتفاقيات ثنائية وهذه نقطة فارقة قد تحتاج إلى رأي قانوني.
ويبقي التحدي الحقيقي للاتفاقية هو في تطبيق وإنفاذ بنودها العشر المستوحاة من القانون الدولي في تقسيم مياه الأنهار بعد إزالة ما يكتنف بعض بنودها من غموض، وذلك عملا بمبدأ “لا ضرر ولا ضرار”.
تحدي قيام السد بالنسبة للسودان
تاريخيا ودائما ما يتلقى السودان (الأهداف) في مرماه من الجارتين مصر وأثيوبيا، فقد سبق وأن فاجأت مصر (أخت بلادي) السودان بإعلان قيام السد العالي وقت التفاوض حول خزان الرصيرص، وها هو بعد سنوات يتلقى المفاجأة الثانية بقيام سد النهضة من الجارة أثيوبيا.
ويواجه السودان بالفعل التحدي الأكبر لقيام سد النهضة، لكونه (في تقديري) يمثل الضلع الأضعف في مثلث الاتفاقية الاطارية. وشواهدي في هذا الضعف عديدة بعضها خارجي والآخر داخلي. ففي الجانب الخارجي ظلت الجارتين (تاريخيا) تنقض عهودها مع السودان، فاتفاقية مياه النيل (بجانب كونها مجحفة بكل المعايير) لم تلتزم مصر ببعض بنودها كتزويد منطقة حلفا القديمة بالكهرباء، كما ظلت تحتل منطقتي حلايب وشلاتين منذ العام 1990 رغم عبارة “العلاقات الأزلية والتاريخية” التي ظلت تزين الخطب السياسية ولقاءات حكومتي الجانبين، كما أنها أيدت تقرير حق المصير لشعب جنوب السودان عند توقيعه اتفاقية السلام الشامل. أما في جانب أثيوبيا فإنها تحتل حاليا منطقة الفشقة منذ سنوات، وظلت قواتها النظامية تدعم بعض المتمردين في الاعتداء على المزارعين داخل الحدود السودانية نهبا وتقتيلا، كما أنها لم تلتزم باتفاقية أرض بني شنقول حسبما جرى ذكره آنفا. وفي الجانب الداخلي مثلت قضية المياه لأنظمة الحكم المتعاقبة في السودان قضية ثانوية (مجازا) شأنها في ذلك شأن الكثير من القضايا المصيرية والمفصلية التي سبق وأن انخرط فيها ” الفرد الحاكم أو الحزب” في التفاوض حولها منذ استقلالنا الذي يوصف (قولا) بالمجيد، ما لم يتبدل واقعنا الحالي إلى حرية وسلام وعدالة، تلك الأهزوجة التي تغنت بها أمواج الثوار إبان ثورة ديسمبر الظافرة بحول الله ،حيث ضاعت حقوق ومصالح عليا كبيرة بسبب عدم المهنية التي لازمت الجهات المفاوضة والممسكة بزمام الأمور، كما أن قضية المياه (في كثير من الأحيان) دائما ما تغلب عليها المصالح الفردية والسياسية الضيقة، وذلك بخلاف مصر وأثيوبيا حيث “مسألة المياه” بالنسبة لهما قضية وطنية كبري” تتوحد حولها الرؤى بين جميع مكونات شعوبها. وحتى لا أرمي القول على عواهنه، كما يقال، أسوق مثالين في ذلك أي جعل القضايا المصيرية شأنا حزبيا أو فرديا. الأول “اتفاقية الميرغني – قرنق” في عهد الديمقراطية الثالثة، والتي كانت أفضل بكثير من “اتفاقيه السلام الشامل” التي جرى توقيعها في عهد الانقاذ، ببساطة لأن “مبدأ تقرير المصير” لم يكن جزءا منها، وتأخر توقيع هذه الاتفاقية بسبب المماطلة والغيرة الحزبية لحزب الأمة الحاكم وقتها، حتى لا يكون شرف الوصول إلي اتفاق يضع حدا للحرب للحزب الإتحاد الديمقراطي، وكان عنوان هذه المماطلة عبارة “بتوضيحاتها” الشهيرة. المثال الثاني هو اتفاقيه السلام الشامل مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق” والتي أصر الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) على الانفراد بمناقشتها وتوقيعها، رافضا مشاركة الأحزاب السياسية الأخرى فيها، وللأسف انتهت بفصل الجنوب وضياع ثلثي موارد الدولة من عائدات البترول، لتصبح الإنقاذ بعد الانفصال اللعين أكبر حكومة متسولة عرفها تاريخ السودان، ولا أغالي إذا قلت عرفها التاريخ الحديث.
والتحدي الحالي في المفاوضات بين الوفود الثلاث المتفاوضة، سببه تمسك الجانب الاثيوبي بموقفه خاصة فيما يلي قواعد ملئ السد وتشغيله التي اقترحتها ورفضتها دولتي المصب، الأمر الذي أدي بمصر إلى التلويح بالخيار العسكري وتمسك الجانب السوداني بخيار التفاوض كوسيلة لحل الخلافات الحالية. وفي مواجهة ما تسميه مصر تعنت الجانب الأثيوبي، لجأت مصر إلى مجلس الأمن للتدخل لحل الخلافات القائمة، إلا أنه وفي تقديري لا يملك مجلس الأمن حلا سوي حث أطراف النزاع إلى اللجوء لمائدة الحوار والتفاوض، وأخيرا تدخل الاتحاد الأفريقي (وهو الجهة الإقليمية التي من المفترض أن تحل الخلافات بين دول أعضائه) داعيا إلى التفاوض، وهو الخيار الغالب حسب الموقف الايجابي للسودان الذي أشرنا إليه.
تكوين لجنة فنية تحت وزارة الخارجية
بالنسبة للسودان لا بد من أن يكون التفاوض بشأن المسائل القومية المصيرية (ومنها المياه)، شأنا وطنيا خالصا بعيدا عن الخلافات السياسة التي تمسك بتلابيب انطلاقه ونهضته إلى آفاق أرحب، وأضاعت عليه فرصا لا يمكن تعويضها، وفوق ذلك قادتنا إلى الأوضاع المأسوية التي تمشي بيننا واقعا ملموسا في شتى مناحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبما أن السودان يزخر بالكفاءات العلمية والمهنية ذات الخبرات العالية في كل المجالات والقضايا، والقادرة على تقديم المشورة الصائبة لجهة التفاوض واتخاذ القرار المناسب، فبالنسبة لسد النهضة (وقضايا المياه اللاحقة .. لا سمح الله) لا بد من تشكيل لجنة فنية عالية (وهو مطلب قديم ومتجدد) يستجيب تكوينها لدعاوى التمثيل الشعبي والرأي العام ورفدها بالمختصين والمهتمين في مجالات الهندسة، كالهندسة الكهربية والتوليد الكهربي من المياه (الكهرومائية) وهندسة الري والهندسة الميكانيكية وهندسة العمارة .. إلخ، وكذلك في مجال البيئة والزراعة بمختلف فروعها، علاوة على الاقتصاديين المختصين في دراسات جدوى المشاريع الضخمة والحيوية وقياس أثرها الاقتصادي والاجتماعي والقانونيين المختصين في القانون الدولي.
غاية تكوين هذه اللجنة، هو تقديم المشورة (الفنية) للمفاوض السوداني في ثلاث أمور. (الأول) العمل على عدم الوقوع في سلسلة تنازلات كالتي قدّمتها وفود التفاوض السودانية المختلفة في اتفاقية مياه النيل، (الثاني) دراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المترتبة علي قيام السد. (ثالثا وأخيرا) أن تكون المصالح العليا والفوائد للسودان من قيام السد، هي أساس التفاوض.
وبخصوص النقطة الثانية، وحسب الآراء الفنية برزت بعض المخاوف والمحاذير من وجود بعض المخاطر من قيام السد (بعضها واقعي وبعضها سياسي) لا بد من وضعها في الحسبان، أهمها التأكيد على ملائمة التخطيط والتصاميم الهندسية والبناء، لظروف المنطقة، وقوة تحمل بوابات السد للفيضانات في المواسم العالية، وإمكانية مرور المياه عبر هذه البوابات دون أن ينهار أو يغرق السد. وفي هذا الشأن استجابت أثيوبيا لرأي وطلب لجنة الخبراء السودانية بإجراء تعديلات وإعمال إضافية في جسمي السد الخرساني والركامي لرفع درجة الأمان السلامة فيه، كما قامت بشق قناة أخرى على جانب السد بالإضافة إلى القناة الأولى لكي تكونا حاملتين للمياه الزائدة في مواسم الفيضانات العالية لسلامة السد من الغرق في مواسم الفيضان العالية بتكلفة تقدر بحوالي مليار دولار تحملتها أثيوبيا. وتؤكد الدراسات أن القناة الأولى كانت كافية، ولكن لزيادة الاحتياطات تم شق القناة الجانبية الثانية. كذلك يجب التأكد من التأثيرات الكهرومائية على السدود القائمة في السودان (الروصيرص، سنار، مروي) خاصة في فترة ملئ السد، ومدى تأثير قيام السد على حصة مياه السودان وحاجة البلاد التنموية، خاصة الزراعية والتوسع المستقبلي فيها، بالإضافة إلى مراجعة قواعد تشغيل السد السنوية في المدى الطويل، والأثر الاقتصادي والبيئي لفقدان الطمي على خصوبة تربة الأراضي الزراعية.
وفي مقابل هذه الهواجس والمخاطر، لخص بعض المختصين الفوائد (يجب التأكيد عليها) التي يمكن أن يجنيها السودان من قيام السد في التالي:
– ضخامة التوليد الكهربائي بقيام السد ومد أثيوبيا السودان بتيار كهربائي بسعر تفضيلي (رخيص)، على أن يقوم السودان بإنشاء خطوط النقل (و كذا العرض لمصر)، وبالتالي تنتفي حاجة إقامة السدود المقترحة كسدي دال وكجبار باستثمارات باهظة يمكن توظيفها لمشاريع أخرى،
– الاستفادة من الحصة المهدرة من مياه النيل. فالقناتان الجانبيتان للسد المقامتان بغرض حماية السد من الغرق، تدخلا الأراضي السودانية من جهة الشرق في تواز لقناة الرهد و من جهة الغرب في تواز لقناة كنانة، وتساعد هاتين القناتين في الزيادة الأفقية للأراضي الزراعية التي تستخدم الري الدائم مما يخلق الاستقرار لآلاف الأسر،
– استقرار منسوب المياه في النيلين الأزرق ونهر النيل طوال العام. ومن مزايا ذلك زيادة التيار الكهربائي المتولد من الخزانات القائمة (الدمازين وسنار ومروي)، وعودة النقل النهري خاصة للركاب للارتفاع المتوقع للحد الأدنى الحالي للنيل بنحو 2-3 أمتار، ويعتبر النقل النهري من أرخص وسائل النقل، مع ملاحظة أن هناك بعض التحفظات على نقل البضائع، كما أن ارتفاع الحد الأدنى من المياه سيقلل تكلفة الضخ بواسطة الطلمبات المنتشرة طوال ضفتي النيل الأزرق والنيل، علاوة على إضافة دورة زراعية جديدة للدورتين الحاليتين،
– ازدياد مستوى المياه الجوفية في حوض النيل الأزرق والحوض النوبي.
– السيطرة على الفيضانات وبالتالي تخفيف الأضرار الناجمة منها من غمر مساحات مزروعة وهدم للمنازل على امتداد شاطئي النيل الأزرق ونهر النيل…. إلخ،
– سيحتفظ السد بالطمي، مما يساعد في زيادة فترة حياة والاستفادة من السدود القائمة (الرصيرص وسنار ومروي).
– انحسار المياه عن مساحات واسعة في بحيرة السد العالي (منطقة وادي حلفا) وتقدر هذه المساحات بأكثر من 200 ألف هكتار وتعتبر من أخصب الأراضي الزراعية، مما يساهم أيضا في زيادة الرقعة الزراعية المزروعة أفقيا.
وعلى اللجنة أن تضع في الاعتبار أن الدولتين خاصة مصر دائما ما تسعي إلى تحقيق مصالحها (خاصة) في قضية مياه النيل دونما اعتبار لمصالح الدول الأخرى، )ومن حقها أن تسعي في تحقيق مصالحها). ولكن يجب أن لا تنسى مصر ما قدمه لها السودان من تضحيات لتحقيق مصالحها. فعلي سبيل المثال تهجير نحو 50,000 من السكان وغرق مدينة حلفا (أجمل مدن السودان وأكثرها تقدما وحضارة وقتها) وأراضيها وكل قراها وكنوزها وأثارها ونخيلها دون أن يكون التعويض عادلا للسودان، ومساعدة السودان لمصر في حروبها المتعددة ضد إسرائيل، وأخيرا وليس أخرا ما دفعه السودان من مقاطعة عربية (ما جرى تسميته بدول الضد) نتيجة تأييده لمصر في توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في العام، وبعد ذلك كله أيدت مصر تقرير حق المصير لشعب جنوب السودان عند توقيعه اتفاقية السلام الشامل، وتحتل مثلث حلايب منذ العام 1990 وترفض التفاوض حوله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من محاسن الصدف، أن تتولى الحكومة الانتقالية الحالية التفاوض في هذا الملف الشائك، بعيدا عن دهاليز وتضاريس السياسة وبدون أي أجندة فردية أو حزبية.
أسئلة مشروعة
لا بد أن يضع المفاوض السوداني هذه الأسئلة في الاعتبار:
– هل يحق لمصر الحديث عن حقوق تاريخية (في استخدام مياه النيل)؟ خاصة أن اتفاقية مياه النيل (ثنائية) رفضت دولتي المصب طلب أثيوبيا (وقتها) إشراكها في الاتفاقية، الأمر الذي دفعها إلى الموافقة على “اتفاقية عنتيبي” والتوقيع عليها مع دول حوض النيل الأخرى.
– هل يحق للسودان المطالبة بدفع قيمة أو تعويض من مصر مقابل تدفق حصة السودان غير المستغلة حسب اتفاقية مياه النيل (لمدة تتراوح بين 50 إلى 60 سنة، وكيف يكون التقييم العادل لذلك (خاصة إذا كانت الإجابة للسؤال الأول بنعم)؟
– هل يحق للسودان المطالبة بدفع قيمة أو تعويض من مصر مقابل عدم التزامها بتزويد منطقة حلفا بالكهرباء طوال الفترة منذ توقيع اتفاقية مياه النيل وحتي الآن، وكيف يكون التقييم العادل لذلك (خاصة إذا كانت الإجابة للسؤال الأول بنعم)؟
– هل يحق للسودان مطالبة أثيوبيا بدفع قيمة مقابل عدم الالتزام باتفاقية 1902 وإقامة سد على النيل الأزرق وعلى أرض (ستغمرها بحيرة السد) محدد وجه استخدامها، وكيف يكون التقييم العادل لذلك؟
– هل هناك أي احتمال أن يوقع السودان على اتفاقية عنتيبي وما يعنيه ذلك حسبما أشرت إليه بعاليه، إذا أصرت مصر على الحقوق والمكتسبات التاريخية؟
– هل يمكن أن يكون احتلال حلايب وشتلاين والفشقة جزءًا من المفاوضات والمساومة حول حصص المياه؟
ما يلي السودان من قيام السد النهضة:
الشاهد في الأمر، أن سد النهضة أصبح حقيقة واقعة. وهنا لا بد من الإشارة أن لأثيوبيا الحق في استخدام مياه النيل الأزرق كما هو الحال بالنسبة لدولتي المصب، وبالتالي يجب على السودان العمل على رسم استراتيجيته وخططه (قصيرة وطويلة الأمد) للاستفادة من الآثار الموجبة لقيام السد والتي تم توضيحها أعلاه، خاصة في أعقاب النجاح الباهر والمنقطع النظير الذي احدثه مؤتمر شركاء السودان الذي دعت إليه ورعته ونظمته ألمانيا (أخت بلادي الحديثة) خلال يونيو 2020 والذى أكسب السودان زخما سياسيا واقتصاديا كسر به عزلة سنوات الإنقاذ العجاف، وسيعمل على إدماجه في محيطه العالمي، وأهم مرتكزات هذه الاستراتيجية:
• تنمية زراعية شاملة تستصحب الميز النسبية لكل منطقة من مناطق السودان وحاجة هذه المناطق و المجتمع الدولي (خاصة دول الجوار لميزة اقتصاديات النقل) من المنتجات الزراعية،
• أن تكون القيمة المضافة من خلال التصنيع الزراعي دائما (حاضرة)،
• ترتيب أولويات البلاد المناطقية من المشاريع وإعداد الدراسات اللازمة بشأنها،
• إصلاح بيئة الاستثمار (سياسات وقوانين) لتوفير بيئة قانونية مستقرة لجذب المستثمرين (وطنيين وأجانب).
• وفوق كل ذلك، توفير عوامل الأمن والاستقرار السياسي.
المراجع
– المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تطور المفاوضات (المصرية السودانية الأثيوبية) حول سد النهضة، موقع الشروق (2019).
– موقع ويكببديا،
– سلمان محمد سلمان (دكتور) سلسلة مقالات حول اتفاقية مياه النيل، موقع الراكوبة (2013).
– عمر بادي (دكتور)، التأثيرات الكهرومائية لسد النهضة الأثيوبي (2015).
– عمر فضل الله (دكتور) نبذة مختصرة حول اتفاقية عنتيبي (2017).
– Babru Zewde (Dr.), The Exclusive Quest for the Tana Dam, Discourses (March-May 2018)
– Fred H. Lawson (Dr.), Conflict Over GERD, Discourses (March-May 2018)
سيد تمام
4 يوليو 2020