الأربعاء , مايو 1 2024
أخبار عاجلة

سنار المدينة.. سنار الحزينة!

عبد الله الشيخ
خط استواء
الحزن يقيم في مكوار، فقد رحل أمس الأول لدار الخلود، أستاذ التاريخ كمال نور الدين.
أهدانا الأُستاذ كمال مِخيالاً، يعانق أبخرة القاطِرات التي كانت تهدهد سكون الصعيد.
أهدانا أفقاً يرتوي الغيم وعبق النيم، ويستولِف نغماً من هدير الخزّان و مِن مَعير الأبقار اللابِنة في زرايب حي التعايشة.
هذا الرجل – أُستاذ التاريخ بمدرسة سنار الثانوية- شكّل وجداننا وصَاغَ على نحوٍ جديد رؤانا للحياة.
أذكره وهو يملأ يده اليسرى باصابع الطباشير، ويكتب بيمناه على السبورة: “محاسن محمد علي باشا”، بتلميحٍ يستقر في الوجدان ويختصر حقبة التركية السابقة كلها في كبسولة العبارة!
عرّفنا أُستاذ كمال على انكشارية التاريخ، وطوّف بنا مع رواد عصر النهضة، ومع أبطال الممالك القديمة. من شدة شغفي بدروسه كِدت أدخل التاريخ، باحراز الدرجة الكاملة في إمتحان الشهادة الثانوية، لولا أنني أخطأت فهم نصف سؤال.
حصة تاريخ استاذ كمال، سينما متنقلة بين مواقف البشر وحوادث الدّهر. كنا نحفظ تعابيره ونعتصر الدقائق وهي تنقضي عجلى، كأن ليس لها علاقة بـ “وَخَم الزمان”.
كان أُستاذ كمال جاهزاً للعودة إلى حوش المدرسة في أي وقت.. تراه يقود اللاندروفر دائباً بين الداخليات والمستشفى في موسم الملاريا التي لا يكاد يفلت منها أحد، خاصة في أحايين الخريف. إنسان مُضيئ، أب وأخ أديب، لا يكل عن تثقيف طلّابه في البرندات وفوق المسرح وفي ميادين كرة القدم والباسكيت، حين كان لطلاب الثانويات باسكيت، ومضارب تنس، ومراسم فنون. ومن عجبٍ أن علاقته لم تنقطع مع التمرجية، فبعد احالته للمعاش، انخرط شغوفاً في العمل الطوعي، فأسس مع آخرين، مستشفى يقدّم خدماته المجانية لمرضى الكُلى.. جاءني صوته الضاحِك قبل حين يحدثني عن أنه وبعد اشتعال رأسه شيباً، امتهن الطِّب،،، وحكى لي طُرفة عن غفير المستشفى الذي كان صارماً في حراسة البوابة، لا يسمح للزوار بالدخول إلا في الموعد المحدد. في أحد الأيام ــ يحكي أُستاذ كمال ــ جاءه مُرافق أصرَّ على دخول المستشفى بسبب حالة طارئة، فلم يجد الغفير غير الاحتجاج، لاعناً أبو اليوم الذي دخل فيه إلى عالم الطِّبْ!
استاذ كمال، فتح مداركنا على جمال الفِكر، وعلى قَطَفات الرواة، فدخلنا بفضله عوالم مكسيم قوركي وتولستوي ونجيب محفوط وهمنجواي، الطيب صالح وديكارت… قرأنا من مكتبته لوليتا، وعجوز البحر، وكل ما “ذهب َمع الريح”.
كان سر المحبة بينه وبين جيلنا، أنه كان حراً طليقاً، يُفكِّر خارج الصندوق. كان يرسل تلميحاته لنتبصّر بعقولنا مجريات الأمور.
بدا لي حينها ليبرالياً مستنيراً، أو ربما كان اشتراكياً عميق الجُّرح إثر ارتطام الدّم بالدم، في 19 يوليو ..
كنا نلاحق حوارياته المتقطِّعة مع تجمعات الطلبة الذين يلتفون حوله في بهو المدرسة. كنا نتناقل توبيخاته خفيفة الظل في وجه من يتجاوز حدود اللياقة في القول أو الفعل.. لله درّه من معلّم فريد يلتزم بتقاليد المهنة، ولا مكان لميوله الخاصة داخل الفصول..
هيأنا الأستاذ لنفهم أن السياسة هي بعض حاجة الانسان..
بعد تلك السنوات، أصبح أُستاذ كمال نور الدين، أبرز زعماء تنظيم الحركة الاسلامية في ولاية سنار، فلم يزيدنى ظهوره في ذاك الحجاب، إلا محبةً فيه.
كانت سنار المدينة بلدة جميلة. كانت أطيب مكان للعيش.. كانت الغيد ــ بنات الأبنوس ــ يأتين من قرى الفونج البعيدة على ظهر البرينسات يحملن في مخاليهن التسالي وعلى خدودهن الخَدَار، وكان أستاذنا يمﻷنا ثقة في نفوسنا، وفي المستقبل.
أستاذ كمال نور الدين.. رحمة الله عليك.

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

مدير “الفاو” يحذر من تفاقم الجوع بإفريقيا ويشيد بالنموذج المغربي في الزراعة

الرباط وكالات ايكوسودان.نت من الرباط، لم يتوان شو دونيو، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا