1823 – 2023
الحلقة (6)
د. عبد العظيم ميرغني
“ما حكَّ جلدك مثل ظفرِك، فتـولَّ أنت جميع أمرِك، وإذا قصدتَ لحـاجــةٍ فاقصد لمعترفٍ بفضلك” هكذا يقول الإمام الشافعي. فبعد أن تعثرت محاولات الهيئة القومية للغابات لأجل تمكين تجربة الجمعيات بالاستعانة بالغير، توجه اهتمامها للإعلام الذي يعرف فضلها، والذي هو الوحيد القادر على جعلها تحت دائرة الضوء. كان اهتمامي أنا (بصفتي الشخصية) مصوباً نحو الصحافة التي قال فيها أمير الشعراء أحمد شوقي: “لكل زمان مضى آية.. وآية هذا الزمان الصحف”، وهي التي كانت أيضاً أول ما يبدأ بها كثير من المسؤولين يومهم وقتذاك. فحرصت على الالتزام بنشر مقالة أسبوعية راتبة فيها، لا أذكر أنني قد انقطعت عن نشرها في موعدها. كانت غالب مقالاتي موجهة لقضايا الغابات والبيئة عموماً والصمغ وإشكالاته وإشكالات منتجيه خصوصاً.
على المستوى الرسمي بذلت الإدارة العامة للإرشاد والإعلام بالهيئة كل جهدها في شأن التمكين لتجربة الجمعيات. وقد نجحت في ذلك غاية النجاح. فقد استطاعت خلال عام وبعض عام (22 ديسمبر 2003م – 22 أبريل 2005م) من نشر عدد 328 مادة صحفية في شكل مقالة أو تحقيق أو خبر في صفحات الصحف الأكثر توزيعا في تلك الفترة، أي مادة إعلامية كل 36 ساعة، تناولت فيها مشاكل الصمغ ومنتجيه بشكل يعكس للمسؤولين ومتخذي القرار والرأي العام بصفة عامة الحقائق بصورة مكثفة وجلية.
كانت قمة نجاحات الهيئة ممثلة في الحملة الإعلامية التي نظمتها بتمويل من منظمة الفاو. كان قوام تلك الحملة ما يقارب الثلاثين صحفياً طافت بهم الهيئة مناطق انتاج الصمغ العربي في شمال كردفان. وقد توجت تلك الحملة بورشة عمل بمدينة الأبيض، عاصمة الصمغ العربي، تحت رعاية والي الولاية خصصت لقضايا الصمغ والجمعيات. كان الصحفيون خلال تلك الحملة يرفدون صحفهم برسائلهم الإعلامية الفورية والتي كانت تنشرها صحفهم أول بأول. كان أبرز مردود أحدثته تلك الحملة صدور قرار من وزير المالية بالرقم 25 لسنة 2005م بتكوين لجنة لتحرير تجارة الصمغ العربي عرفت فيما بعد بلجنة الكندي. حدث ذلك في اليوم التالي مباشرة لنشر صحيفة الرأي العام رسالة للأستاذ محمد لطيف الذي كان ضمن الحملة، جاء فيها تحت عنوان “حين تخرق الحكومة سياساتها: الصمغ العربي نموذجاً!” قال: “لو أن الهيئة القومية للغابات اكتفت بإنشاء جمعيات منتجي الصمغ العربي وانصرفت لكفاها. نقول هذا لجهة أن المرحلة المقبلة هي مرحلة القواعد ومرحلة الاهتمام بالمنتج المحلي في أدنى السلم…”. ونادت الرسالة أيضاً بضرورة “إلغاء نظام الاحتكار سيما وأنه يتعارض مع سياسات الدولة المعلنة في قطاع الاقتصاد، ثم أنه يضر ضرراً بليغاً بالمنتج الحقيقي…”. وأضافت “جمعيات منتجي الصمغ العربي نموذج لتنظيم القواعد في إطار من المصالح الاقتصادية كوسيلة لحماية حقوقهم (تحليل سياسي بالصفحة الأولى لصحيفة الرأي العام 9 فبراير 2005م).
كان لقرار وزير المالية هذا ما بعده. إذ أنه قاد في نهاية المطاف، مقروءاً مع قرار مجلس الوزراء رقم 118 لسنة 2003م القاضي برفع الامتياز عن الشركة تدريجيا في مدى زمني أقصاه ثلاث سنوات، ومقروءاً أيضاً مع ما ورد بملحق اتفاقية نيفاشا في يناير 2005 في شأن تحرير الصمغ العربي والذي يعتبر برنامجاً تنفيذياً للاتفاقية، قاد هذا القرار إلى تحرير الصمغ العربي إنتاجاً وتجارة وتسويقا وإلغاء نظام الامتياز وسحب الامتياز من شركته في مايو 2009م. يومذاك استدعي أبو الغابات كامل شوقي، عضو مجلس إدارة الهيئة ورئيس المجلس السلعي لمنتجات الغابات التابع للأمانة العامة للنهضة الزراعية، استدعي إلى رئاسة مجلس الوزراء لِيُبَّلغ بأن المجلس على وشك إصدار قرار بتحرير الصمغ العربي وطلب منه إبداء الرأي فيما يمكن تبنيه من إجراءات واتخاذه من ترتيبات احترازية لازمة لعملية التحرير.
كان رأينا في الهيئة ضرورة تكوين مجلس سلعي للصمغ أولاً. كان هذا الرأي على عكس ما كان يقول به ممثل البنك الدولي في السودان المستر جاك بلاكان الذي اشترط إزالة الاحتكار لأجل دعم الجمعيات. فقد كان يرى ألا ضرورة للمجلس على الإطلاق. وهذا ما لم نقبل به وتمسكنا برأينا بتكوين المجلس وفي الأذهان تجربة الحبوب الزيتية وشركتها.
تمت خلال سلسلة اجتماعات رأسها أبو الغابات كامل شوقي واستضافتها الهيئة وشارك فيها كل أطياف أصحاب المصلحة في الصمغ، تمت بلورة صيغة مقترحات للإجراءات والترتيبات الاحترازية اللازمة لعملية التحرير. كان من أبرزها تكوين مجلس سلعي للصمغ بصلاحيات إشرافية ورقابية واسعة، من صلاحياته كذلك التوصية بالأسعار الدنيا للصادر؛ ووضع الأسس والضوابط المطلوب توفرها لمنح التراخيص للشركات وتراخيص الصادر والمزايا التفضيلية (ضرائب، إعفاءات جمركية، إعفاءات ومزايا للاستثمارات، الخ) لكل من المنتجين والمصنعين والمصدرين، وإعداد موجهات البحوث الخاصة بتطوير إنتاج وتسويق الأصماغ، والإشراف على إنشاء مخزون استراتيجي وقائي للأصماغ الطبيعية وإدارته (حجمه، ومصادر تمويله ومواقع تخزينه، وسياسات الإحلال والتصرف فيه)، تنظيم أعمال الترويج وبحوث جميع الأصماغ الطبيعية لا الصمغ العربي وحده، وتمويلها، وتأسيس محفظة رأسمال لتمويل المنتجين تساهم فيها البنوك المختلفة في شكل تحالفات لتفادي الازدواجية، تدار بواسطة بنك رائد وفق المعايير الفنية الخاصة بسياسة التمويل الأصغر، وبالتنسيق مع محفظة الصادر مع استصحاب التأمين الزراعي لتقليل مخاطر التمويل.
كانت أولى ثمار سياسة التحرير فيما يختص بتطوير تجربة جمعيات الصمغ الحصول على منحة من مجموعة الدول المانحة والصندوق الدولي لتنمية الزراعة (IFAD) لدعم تجربة الجمعيات مقدارها عشرة ملايين دولار. وقد تمكنت الهيئة من خلال ذلك الدعم من إقامة نموذج شمل مائتي جمعية تعاونية في خمسة ولايات منتجة للصمغ، وذلك بغرض تعميمه مستقبلاً على بقية الجمعيات المنتشرة بالولايات الأخرى. وقد أثبت هذا النموذج نجاحاً منقطع النظير، حيث حقق هدف زيادة انتاج الجمعيات من الصمغ بنسبة 65% مما كان عليه الحال قبل قيام النموذج، وزيادة في عائدات الصمغ النقدية من نسبة 15% الي 50% من سعر الصادر. كما اشتمل النموذج على نظام منح مالية على أساس تشاركي مكنت الجمعيات من تنفيذ 46 مشروعا لإنشاء بنيات تحتية (محطات مياه وحفائر وخزانات مياه وجرارات… الخ)، أسهم النموذج في تمويلها بتوفير نسبة 80% من التكلفة الكلية، بينما أسهمت الجمعيات بنسبة 20 %.
استفادت من هذا النموذج عدد 11346 أسرة، تعادل نسبة النساء فيها 25% من جملة المستفيدين. وفي العام 2013م أفلحت الهيئة كذلك في استقطاب دعم الوكالة الدولية للتنمية الفرنسية، لتسهم لأول مرة في تاريخها في دعم قطاع الصمغ العربي بالسودان من خلال مشروع بمسمى هيكلة قطاع الصمغ العربي، وتبعه آخر بمسمى مشروع دعم سلسلة القيمة للصمغ العربي، وتبعه ثالث من بعض المانحين الآخرين، ذو صلة بقضايا التأقلم والمرونة تجاه التغيرات المناخية.
واجهت تجربة الجمعيات الكثير من التحديات، أبرزها عملية التسويق التعاوني الذي كان الحلقة الأضعف في سلسلة حلقات تجربة الجمعيات. وقد سعت الهيئة لأجل علاج هذه المعضلة بإنشاء شركة بمسمى “شركة تنمية الأصماغ الطبيعية” سبق التعرض لها في الحلقة السابقة. ومن التحديات الأخرى عمليات إدارة محافظ التمويل والمشروعات الصغيرة، وتأهيل قيادات الجمعيات وتدريبها على النظام الأمثل لإدارة الجمعيات، وتدريب أعضاء الجمعيات على الإسهام والمشاركة في إدارتها وفي عمليات البيع والشراء والتسويق، وحساب الأرباح والخسائر، وقيد الحسابات وتوزيع الأرباح.
للأسف لم يتعد إسهام حكومات الولايات في إنشاء وترقية تجربة الجمعيات حد المؤازرة المعنوية، بينما كان الأجدر أن تتبنى التجربة كنموذج ضمن برامج التنمية الولائية. كذلك كان من أهداف نظام الجمعيات تقنين حيازات جنائن وشاقات أشجار الصمغ، وهذا لم يحدث إلا جزئياً بولاية النيل الأزرق. ومن الثغرات التي لا زالت تواجه الجمعيات وينتظر من ادارات التعاون التابعة لوزارة التجارة الإسهام فيها هي عمليات التدريب والمراجعة والتقييم والتقويم. أما الثغرة الكبرى في تجربة الجمعيات فقد تمثلت في الخزلان المبين للتجربة من خلال الأدوار السلبية التي لعبها بعض قادة الاتحاد العام التعاوني النوعي للجمعيات والتي رعتها الهيئة بجانب تنشئة الجمعيات. وقد اقترف هؤلاء تجاوزات ترقى لدرجة المساءلة الجنائية. وقد كانت لهذه التجاوزات انعكاسات سالبة على مسيرة تطور التجربة.. يتبع.
تضرعاتي بحسن الخلاص، وتحياتي.
عبد العظيم