د. عبد العظيم ميرغني
• إذا كان الوزير هو الرئيس الأعلى في الوزارة والعقل المدبر لشؤونها وفق السياسة العامة للدولة، فإن الوكيل هو الروح والقلب النابض بالحياة في شرايين الوزارة، والمسؤول عن تنفيذ سياساتها العامة وكافة أعمالها.
• لكن للأسف حين وقعت تلك الواقعة، لم يكن هناك وكيل للوزارة، وجاءها ذاك الوزير من إحدى الولايات وكان وهو جديد على الوزارة في فترة أعقبت إعفاء وكيلها وتكليف آخر محله ليصرف أعباء الوكالة بالإنابة.
• الدرس الأول، أثبتت هذه التجربة والتجارب التي سبقتها أنه لا يوجد في أي مؤسسة وضع أسوأ من الوضع الذي يتولى شؤونها مسؤول بالإنابة، ففي مثل هذه الحالات، بجانب الحذر الذي يبديه المسؤول المكلف بالإنابة في تسيير شؤون المؤسسة، فإنه غالباً ما تحدث أشياء تتسبب في إحداث ربكة وعدم استقرار في المؤسسة، ربما تشابه في كلياتها تلك الفوضى التي تحدث في الغابة حينما تسقط شجرة ضخمة بسبب معركة بين الأفيال مثلاً أو بفعل الطبيعة، فتدخل كل النباتات، أشجارها وشجيراتها التي كانت تظللها تلك الشجرة التي سقطت، ولا يستثنى من ذلك حتى نباتات السلعلع الطفيلية المتسلقة. تدخل جميعها في سباقات التنافس نحو الأعلى حيث مصدر الضوء، لسد الثغرة قبل أن يحتلها آخرون. وفي مثل تلك الظروف تختلط الأشياء وتختل المعايير، ويصبح المسرح مهيئا لحدوث أمور كثر يتحكم فيها قانون الغاب. فلو كان هناك وكيل للوزارة كامل الدسم فلربما ما حدث شيء مما حدث.
• الدرس الثاني، من الناحية الشكلية صدر قرار إيقافي عن العمل وإخضاعي للتحقيق في خطاب مفتوح سلم للمكتب العمومي للهيئة القومية للغابات بالسيرك العمومي العادي. وسرعان ما تسريت محتوياته إلى عموم العاملين، لينتشر خبر إيقاف مديرهم العام وإخضاعه للتحقيق، قبل أن يصله هذا الخبر وهو في مأمورية وسط العاملين بولاية نهر النيل، الذين كانوا يعلمون وما كان هو قد علم وتألم بعد.
• كان في ذلك الإجراء خروج على قواعد الخدمة المدنية وتقاليدها المتعارف عليها، والتي تقضي بسرية مثل هذا الخطاب وتسليمه للمعني شخصيا في مظروف مغلق وسري للغاية، خاصة لمن هو في وظيفة قيادية مثل وظيفة مدير عام الغابات. هذا إذا لم يرغب الوزير في استدعائه شخصياً لإبلاغه بالقرار قبل تسليمه له رسمياً. فلو كان هناك وكيل للوزارة كامل الدسم فلربما ما حدث شيء مما حدث.
• هناك ملاحظة أبداها المستشار القانوني للهيئة فحواها أن إيقاف مدير عام الغابات ومدير المكتب الوزاري بقرار واحد لم يراع مكانة وخصوصية مدير عام الغابات باعتباره من القيادات العليا في الدولة وأن قرار تعيينه صادر من رئيس الجمهورية، بينما مدير المكتب الوزاري يعينه وكيل الوزارة ويتبع له.
• هناك ملاحظة أخرى كذلك، كان على الوزير إخطار مجلس إدارة الهيئة بقرار الإيقاف والتحقيق، ذلك لأن مجلس الإدارة مختص بموجب قانون الهيئة الخاص بإدارتها ومراقبة أعمالها وممارسة سلطاتها. وحتى يتسنى للمجلس القيام بذلك كان عليه على أقل تقدير أن يعلم بنية الوزير بإجراء إيقاف المدير العام عن العمل. فلو كان هناك وكيل للوزارة كامل الدسم فلربما ما حدث شيء مما حدث.
• الدرس الثالث، من الناحية الجوهرية، فإن موضوع القضية ذو الصلة بالإيقاف والتحقيق مرتبط باتفاقية دولية، تحتم على أي جهة لأجل تنفيذ مشروع في إطار تلك الاتفاقية، تعبئة استمارات مخصصة لذلك، ثم التماس موافقة وزارتين سياديتين على ذلك، كل على حدة، وكتابة ثم إخطار سكرتارية الاتفاقية بكل ذلك. وأي من ذلك لم يحدث، وبشهادة مجلس الولايات (أنظر صحف أخبار اليوم والصحافة والأيام والشارع السياسي الصادرة بتاريخ 22 فبراير 2006م.)، ولجنة البيئة والسياحة بالمجلس الوطني كذلك (أنظر صحيفة الحياة بتاريخ 20 فبراير 2006). فلو كان هناك وكيل للوزارة كامل الدسم وملء هدومه، قطعاً ما كان سيحدث شيء مما حدث، ولربما قامت أجهزة الوزارة كالاستشارية القانونية بدورها كاملاً ولما ظلت شبه معطلة غي شأن من أخص شؤونها.
• الدرس الرابع، يستوعبه غالبية الصحفيين، وكثير من منسوبي الجمعيات الطوعية التي تعمدت إثارة الأقاويل وبث الشائعات حول هذا الموضوع، موضوع القضية، ما عدا قلة حان الحين لأن تستوعبه، وتوقن من أن “الكذب لا يخفي الحقيقة وإنما فقط يؤجل انكشافها”.
• الدرس قبل الأخير بالنسبة لي شخصياً، بالرغم من مرارة التجربة التي تعرضت لها إلا أنه كما يقال “الضربة الي توجع قلبك، تصحي عقلك”. فقد كشفت لي معادن من هم حولي “بعضهم خاب فيهم ظني، وأغلبهم وجدتهم أجمل بكثير مما كنت أظن”.
• الدرس الأخير، يخصني أيضاً، معلوم أن من مظاهر الخدمة المدنية ما اصطلح على تسميته بظاهرة الحفر والحفارين؛ وخدمة مدنية من دون حفر أو حفارين، خدمة ناقصة، ومسيخة لا طعم لها أو لون، وأحمد الله أن هيأ لي حفارين، “فمن ليس له (حفارين) منبوذ حتى من أصدقائه” كما يقول أوسكار وايلد. ولقد كان من حسن حظي أنني حظيت بأساتذة مهرة في فنون “الحفر”،
• فقد تمكن هؤلاء الحفارون من الوقيعة بين الهيئة وبين وزيرها وأوشكوا أن ينجحوا من خلال ذلك في إحلال شخص آخر في محلي في إدارة الهيئة، الأمر الذي إن حدث في ظل تلك الظروف لسبب لي ضربة موجعة. ولكن شاءت إرادة الله أن تقيني نلك الضربة إذ ضلت الرسالة التي بعث بها المرشح من مهجره بالموافقة على العرض الذي قدم له إلى جهاز “الفاكس” خاصة مكتبي بدلاً عن الجهاز خاصة الوزارة، فما علم هذا المرشح (وهو رجل صديق) ما حدث حتى عده تقديراً ربانياً لا سبيل إلا للامتثال له. فاعتذر لي واعتذر لهم. ألم أقل إن خدمة مدنية خالية من الحفر والحفارين خدمة ناقصة ومسيخة، الدرس الذي ينبغي عليَّ استيعابه هو على المرء أن يتوكل على الله وأن يتحسب في ذات الوقت لكل شيء بأن يكون في قمة الجاهزية لأي طارئ، وعلى قول المثل الإنجليزي Put your trust in God, and keep your gun powder dry.
أخيرا، لماذا لا تكون وظيفة وكيل الوزارة وظيفة دائمة بدلاً عن وكيل لكل وزير؟
تضرعاتي بجسن الخلاص، وتحياتي.