في العام 1958م انعقد مؤتمر السافنا بقاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم، القاعة العامة الوحيدة آنذاك في السودان. وفي حفل الافتتاح الرسمي الذي غصت فيه القاعة بالخبراء والسفراء والوزراء بزيهم الإفرنجي الكامل مع ربطة العنق والقومي أو البلدي بالعمة والعباءة أو الشال، لبس مدير الغابات كامل شوقي زيه المعهود، بنطال الدمور القصير (short) وقميص الغابة (bush shirt)، فلمحه بروفيسور عبد الله الطيب من بعيد فجاءه يسعى شاقاً الصفوف وبادره بالقول:
تراه في السلم في برد مُزَرَّدة *** لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
الدعوة على عجل هي سمة من سمات عمل الغابات الذي يستوجب (الجاهزية) في كل لحظة وآن، بسبب التعدي على الغابات، وهذا أمر ليس هنا مجال تفصيله اللهم إلا فيما يتصل بموضوع هذا المقال.
ذكرت في مقالات سابقة أن الغابات حينما كانت مصلحة لم تكن معها مؤسسة زراعية أخرى، معها أو قبلها، في هيكل الدولة. وذكرت كذلك أنه حينما أنشئت مصلحة الزراعة بعد ذلك، وحتى بعد أن صارت وزارة، كانت هي والغابات متلازمتين على مدى أكثر من قرن وربع القرن من الزمان، إلا في فترتين قصيرتين، حوالي ستة أشهر عام 1996 وخمسة سنوات خلال الفترة 2009 – 2014، فصلت فيها الغابات عن توأمها (الزراعة) وتُبِّعَت لوزارة البيئة.
كانت هناك قبل 2009 محاولة من وزارة البيئة لضم الغابات إليها لم يكتب لها النجاح. وكان قد شكلت لذلك لجنة للنظر في طلب تقدمت به لأجل ذلك، فشكرت في إفادتي للجنة المكلفة في النظر في الطلب، شكرت وزارة البيئة لإبداء الرغبة، وذكرت كذلك أن وزارة البيئة وزارة صديقة بطبيعة اختصاصاها ونوعية نشاطاتها، ويسهل على الغابات التنسيق معها والتعاون معها حتى من على البعد. ولكن الأمر مع وزارة الزراعة مختلف عن ذلك، وضربت لذلك مثلاً بعلاقة الحمار والأسد في الأسطورة الشعبية، أن الحمار حينما يسمع زئير الأسد يجري نحوه بدلاً عن أن يهرب منه، فالأنسب للغابات أن تبقىى مع الأسد أقصد الزراعة، وهي تفضلها على كل ما عداها من وزارات حتى على خيار أن تكون الغابات هي نفسها وزارة بذاتها، ليس لسبب سوى لأن الغابات تخاف الزراعة وتحاول تفادى أذاها بحسبان الزراعة هي النشاط الأكبر والأكثر استخداماً للأراضي ومنافسة للغابات عليها وعلى حسابها، وإن في وجود الغابات مع الزراعة تحت مظلة واحدة يعزز من فرص التنسيق بينهما وتقليص فرص التنافس الضار بالمصلحة العامة. كان هذا الرأي ولا يزال -في اعتقادي- هو الرأي الغالب وسط العاملين في الغابات، وقد أيده أبو الغابات كامل شوقي حينها، وهو الرأي الذي أخذت به اللجنة.
عدت في أواخر العام 2014، والغابات تحت إشراف وزارة البيئة، برفع مذكرة لوزير الزراعة، رفعها معاليه بدوره لمجلس الوزراء الموقر، دونت فيه ما تراءى لي من أسباب تستدعي تحويل الغابات من وزارة البيئة لإشراف وزارة الزراعة، وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك.
كان على رأس الأسباب التي ضمنتها تلك المذكرة الآتي:
الوضع الهيكلي الشاذ للغابات في ظل وزارة البيئة، فبينما كانت الغابات تخضع في إطار وزارة البيئة لرقابة لجنة الشئون الزراعية بالمجلس الوطني كانت كافة مكونات الوزارة الأخرى خاضعة لإشراف لجنة البيئة والصحة. وفي حين كانت “الغابات” تتبع للقطاع الاقتصادي بمجلس الوزراء كانت كل مؤسسات الوزارة الأخرى تتبع لقطاع الخدمات بالمجلس الموقر، مما جعل من العسير تصنيف وزارة البيئة، وزارة خدمية أم اقتصادية.
على مستوى الولايات، في حين كانت “الغابات” تتبع لإشراف وزراء الزراعة في ستة عشرة ولاية، كانت الغابات تتبع لوزارتين بيئتين فقط، ولم يكن لهاتين الولايتين علاقة هيكلية مباشرة بوزارة البيئة الأم (الاتحادية) كما هو الحال بالنسبة للعلاقة التي كانت بين وزارة الزراعة الاتحادية ووزارات الزراعة الولائية.
وجود “الغابات” إذن تحت مظلة وزارة الزراعة الاتحادية يعزز من إحكام التنسيق بين المركز والولايات في الشأن الغابي. كما أن في بقاء “الغابات” تحت مظلة وزارة البيئة في ظل وجود بحوث الغابات التابعة لهيئة البحوث الزراعية تحت مظلة وزارة الزراعة يهزم المبدأ الذي من أجله تم تحويل هيئة البحوث الزراعية من وزارة العلوم والتقانة لوزارة الزراعة في وقت سابق.
من أبرز العوامل الأخرى التي حتمت تبعية “الغابات” لوزارة الزراعة، عامل المهنة الواحدة، فالغابات زراعة وإن كانت تعنى بمحاصيل زراعية ذات دورات طويلة المدى مقارنة بالدورات المحصولية الزراعية قصيرة المدى. كما أن في إعادة “الغابات” لإشراف وزارة الزراعة تحقيق لرغبة العاملين بالغابات وتجسيد لشعارهم “لا زراعة بلا غابات، ولا غابات بلا زراعة”، يضاف إلى ذلك أنه حتى في ظل تبعية الغابات لوزارة البيئة فضل العاملون في الغابات بقاء نقابتهم تحت مظلة النقابة العامة للزراعيين وليس نقابة العاملين بوزارة البيئة.
إن في وجود “الغابات” تحت مظلة أي وزارة اخرى خلاف وزارة الزراعة والغابات يتنافى ومراحل التطور التاريخي “للغابات” التي تدرجت تحت إشراف وزير الزراعة من مصلحة إلى إدارة عامة إلى إدارة مركزية ثم هيئة قومية مستقلة على مدى 117 عاماً من عمرها البالغ 121 عاماً الآن.
على الصعيد الدولي تتلخص مبررات تبعية “الغابات” لوزارة الزراعة بالاستناد على ما ورد في تقرير منظمة الفاو عن حالة الغابات في العالم لعام 2011م، فإن 43% من بلدان العالم تتبع مؤسسات الغابات فيها إلى وزارة الزراعة، وتتبع في متبقي البلدان لرئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو أن تكون وزارة قائمة بذاتها كما في الصين مثلاً، نسبة قليلة تتبع فيها إلى وزارات أخري ليس من بينها وزارة الزراعة.
إن من أبرز العوامل المؤثرة على حالة الغابات في أي بلد من البلدان هو الوضع الاداري لقطاع الغابات في ذلك البلد. فحسن ادارة قطاع الغابات يحققه بجانب توفر المؤسسة الحكومية الفاعلة والإطار التمكيني من سياسات واقعية وقوانين ملائمة والتزام صارم بتنفيذ تلك القوانين، يوفره ضرورة سير العمل الإداري للغابات بشكل انسيابي وسلس على كافة مستويات وعلاقات العمل الرأسية والأفقية، وهذا -حسب تقديري- لا يتوفر للغابات إلا تحت مظلة وزارة الزراعة وليس أي وزارة أخرى.
بناء على ما تقدم، فإن الرسائل التي أبعث بها لعناية اللجنة التي قيل إنها كلفت بالنظر في أمر تشكيل وزاري وفي إعادة هيكلة الأجهزة الاتحادية، هي كالآتي:
أولاً، مراعاة ما تقدم والأخذ به في الحسبان عند النظر في إعادة الهيكلة فيما يلي الغابات والزراعة وعدم الفصل بينهما؛
ثانياً، الإبقاء على اسم “الغابات” في مسمى الوزارة، فهو حق تأريخي وأدبي مستحق لها.
ثالثا، من ملاحظاتي وملاحظة بعض الزملاء في الأجهزة الاتحادية الأكثر تعرضاً للهيكلة وإعادة الهيكلة بالتعديل والتفكيك والدمج كوزارات المالية والاقتصاد والتخطيط، والتعاون الدولي، والطاقة والنفط والكهرباء، وكلها مجالات ذات حساسية تحتاج للمتابعة والتقييم والاستفادة من التجارب السابقة، لوحظت بعض المظاهر التي عادة ما تصاحب عمليات الهيكلة وإعادة الهيكلة، كضياع المستندات بين مكونات الأجهزة التي تتعرض لإعادة الهيكلة، وفقدان المعلومات التراكمية التي تكون مصدراً للتحليل والتخطيط والمتابعة. وتعرض كثير من المشروعات للتعطل بسبب عدم قناعة الجهات التي تؤول إليها تلك المشروعات وربما توقف بعض المشاريع تماماً بسبب عدم الرغبة أو الإهمال، أو عدم الالتزام بعمليات التسليم والتسلم بالصورة المطلوبة، أو حتى لمجرد تغيير العاملين.
ملاحظة إضافية مهمة تكمن في عملية التواصل داخليا وخارجيا. فبمجرد حدوث التفكيك والدمج بتحويل مكون من وزارة لأخرى، ويتم تغيير المسمى والموقع والعنوان، يحدث انقطاع في التواصل وتظهر فيه فجوة بتكلفة إضافية لطباعة الاوراق المروَّسة والمستندات وارقام الاتصال الجديدة، فلكل شيء ثمن.
أخيراُ وليس آخراً في كثير من الحالات يتعرض كثير من العاملين للمعاناة وفقدان الحقوق المادية والأدبية نتيجة تحويلهم من وزارة لأخرى ولدينا من الشواهد ما يؤيد ذلك.
تضرعاتي بحسن الخلاص؛ ودعواتنا للجنة بالعون والتأييد من الله والنجاح.
عبد العظيم ميرغني
Check Also
«اليوم العالمي للسكري»: جهود مملكة البحرين للارتقاء بجودة الحياة للمتعايشين مع السكري
كشفت البروفيسور دلال الرميحي استشاري الغدد الصماء والسكري بمستشفى العوالي أستاذ مشارك للطب الباطني في …