“من خصوصية أي شعب بصمة الطبيعة على طبعه”، مقولة تعج بها مخطوطات الفلسفة والتاريخ. وتعزو بعض المدارس الفلسفية تولد القيم والسلوك الثقافي والحضاري لدى البشر لطبيعة الرقعة الجغرافية التي يحتلونها.
في هذا السياق، يرى الدكتور بركات موسى الحواتي في كتابه “الذاتية السودانية” أن للرقعة الجغرافية (موقعها ومساحتها وشكلها وتضاريسها وبيئتها) دور أساسي في تشكيل مزاج إنسانها ومظاهر انفعالاته واستجاباته، صراعا كان أم حواراً، ابتداراً أم تراخياً. وضرب الحواتي مثلاً، بطبيعة الجزر البريطانية وعزلتها التي تفسر المزاج المحافظ لدى البريطانيين. وبتقارب الرقعة الذي جعل مزاج الشعب الفرنسي وتاريخه يتسم بالصدام واختلاف الأعراق.
مما تقدم يمكن القول بأن وقوع منطقة بحر أبيض برقعتها السهلية المنبسطة، ووسطيتها الجغرافية، وانسيابية جريان نيلها الابيض في تؤدة وتمهل بعكس توأمه الأزرق المنجرف، تولدت عنها خصائص وسمات انعكست على تاريخ وتطور منطقة بحر أبيض ورتابة ايقاع الأحداث فيها وأساليب تفاعل ساكنيها مع المجتمع الذي حولها على نحو تعكس بعضه الامثلة التالية:
في العام 1933، شهدت منطقة بحر أبيض تشييد أول سدٍّ في العالم يُبنى في دولةٍ للمصلحة الكاملة لدولةٍ أخري، ذلك هو خزان جبل أولياء الذي أقيم على بحر أبيض كأول خزان يقام عليه، وكان ذلك في مقابل مبلغ 750 ألف جنيه إسترليني كتعويضاتٍ لآلاف الأهالي الذين اضُطروا للنزوح من أراضيهم الزراعية وقراهم والجزر التي كانت توجد بصفة دائمة على النيل الابيض وغمرتها مياه بحيرة السد على امتداد ثلاثمائة كيلومتر الى الجنوب منه. ونشأ عن تلك التعويضات عدد سبعة مشاريع زراعية، سميت بمشاريع الإعاشة، اقتصر إنشاؤها على بعض المناطق المتضررة دون البعض الآخر، ورغم ذلك لم يدعي أحد بأنه مهمش أو ظن أنه مهمش، أو دار بخلده معنى التهميش، ولكنه كان هو هو التهميش.
في العام 1940 أدمجت مديرية النيل الابيض التي كانت قد أنشئت في العام 1904 بشعار التمساح، في مديرية النيل الازرق بشعارها طائر أبو مركوب، فكل ما كان من أمر أهالي بحر أبيض ان لطموا الكفوف، كفاً بكف، عجبا في “الطيرة الأكلت التمساح”، وظلوا على هكذا حال فترة 34 عاماً، حتى العام 1974م، حين عادت بحر أبيض مديرية كسابق عهدت، مرة أخرى لم ينتاب أهالي بحر أبيض أي شعور بالتهميش أو ظن بتهميش، أو دار في خلدهم معنى التهميش، ولكنه كان هو عين التهميش.
في السبعينات أنشئ طريق الخرطوم – ربك القومي، بطول ثلاثمائة وعشرة كيلومتر على ضفة النيل الأبيض الشرقية، دون أن يصادف هذا الطريق في طريقه من الخرطوم إلى ربك وبالعكس أي قرية أو مدينة من مدن وقرى بحر أبيض سواء تلك التي وقف عندها ود الرضي في “الاسكلا وحلا” أو حسن اكرت في “ظبية البص السريع” أو أي مدينة او قرية أخرى لم يقف عندها أي من ود الرضي أو حسن أكرت. كل هذه القرى والمدن تخطاها هذا الطريق (عدا القطينة) وابتعد عنها في بعض الحالات ما بين عشرة إلى عشرين كيلومتر أو يزيد، دون أن يخامر أهالي بحر أبيض شعور بالتهميش أو ظن بأنهم مهمشون، أو دار بخلدهم معنى للتهميش، ولكنه كان هو هو التهميش.
لبحر أبيض القيادة والريادة ومركز الثقل في إنتاج وصناعة السكر والميثانول، في مشاريع كنانة وعسلاية والنيل الأبيض، ومشروع الرديس (كنانة 2) المقترح حديثاً في مساحة نصف مليون فدان، وجميعها مشاريع قومية ناجحة وواعدة وربنا يبارك ويزيد. لكن في المقابل هناك مشاريع الإعاشة (مشاريع الأيلولة حالياً)، والتي آلت بسبب اللامبالاة إلى بقايا مشاريع خربة. وهناك مشاريع الشراكة الزراعية التي أسسها كبار رجال الأعمال مع ملاك الأراضي على ضفتي بحر أبيض الشرقية والغربية والتي أخذ رجال الأعمال في التخلي عنها منذ أكتوبر 1964 حينما أطلقت ثورة أكتوبر نداءات “الإصلاح الزراعي”، وتبارت الأحزاب السياسية حينها في المزايدة بشعارات التأميم. ومن هذه المشاريع تلك التي شارك في تأسيسها آل عثمان صالح، ويونس أحمد وعبد المنعم محمد، وخلف الله خالد، وبشير النفيدى، وبشري هبانى، ومحمد احمد أبو نايب، وآل أبو العلا، وعبد الجليل، وابو زيد، وبعض الشركات العالمية مثال شركة “بينتو” وغيرها. كل هذه المشاريع تخلى عن المشاركة فيها رجالات الأعمال هؤلاء ولم تلتفت إليها الحكومات. رغم حدوث كل هذا لم يدعي أهالي بحر أبيض الشعور بالتهميش، وأنى لهم بشعور التهميش وهم لا يعرفون ما التهميش من قبل، لكنه كان هو هو ولا يزال هو التهميش.
لبحر أبيض كما هو معروف الريادة والقدح المعلى في مجال التعليم، وما ذكر التعليم إلا وذكرت مدينة العلم والنور، الدويم، حيث أنشي في العام 1934م معهد التربية بخت الرضا، بعد أن عزفت عن استضافته بعض مناطق البلاد الأخرى توجسا من حداثة التجربة. لكن رغماً عن ريادتها في جانب التعليم إلا أن حال تمتع أبناء بجر أبيض بحق التعليم الابتدائي فيها حتى نهاية الستينات، هو كما صوره قلم صديقي الأستاذ أحمد عبد الله حميده (أبو شنب) بقوله: “كانت طاقة الفصل أربعين طالباً لا يمكن تعدى هذا العدد، وكان عدد المتنافسين يفوق ذلك أضعافاً. وكانت طريقة القبول للدخول للمدرسة الأولية بواسطة القرعة. لقد كانت التجربة قاسية ومريرة. وكادت أن تذهب نفسي حسرات وأنا آخذ الورقة الفاضية وتتعالى الضحكات من الفضولين المتزاحمين على الشبابيك، يضحكون ويقهقهون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، ليتهم كانوا يتغامزون بل بأعلى أصواتهم يتصايحون: “السنة الفاتت مرق فالصوا”. وكنت أتماسك وأتجلد رقم صغر سني وكثرة الباكين من حولى، والعقلاء من الآباء يزجرون المستهزئين ويشيعونك إلى ولي أمرك له معتذرين، ولك مصبِّرين، يمسحون على رأسك مسح الكريم على رأس اليتيم. ويتسرب إلي نفوسنا اليأس والإحساس بالحرمان والظلم. ثلاثة مَرات مُرات (بفتح الميم وضمها). وهنالك ملاحظة، هي أنك حين تأخذ القرعة فارغة يعنى ألا تتكرر الفرصة إلا بعد عام دراسي كامل. التقطت ورقة القرعة مرتين في عامين متتاليين بيضاء للناظرين بها كل سوء، وفى المرة الثالثة احتج الوالد رحمه الله وأكرم مثواه “ما ممكن نلعب القمار بمستقبل أولادنا”. وكان قد انتابنى شعور لا أدرى ماهو، أظنه الآن هو الشعور بالتهميش إذ ما كنا ندرى آنذاك ما التهميش.
كلن ذلك هو حال صديقي حميدة أبو شنب الذي كان أحسن حظاً مني لأنه كان بنافس للالتحاق بمدرسة أولية مكتملة الأركان ذات أربعة فصول تمكنه في حالة النجاح في الالتحاق بها، المنافسة مباشرة للالتحاق بالمدارس الوسطى بعد ذلك. أما في حالتي وحالة زملائي في مدارس بجر أبيض الصغرى ذات الثلاثة فصول، فقد كان علينا بعد اجتياز معاينة القبول للمدارس الصغرى، خوض معركة صعبة وفاصلة بعد ذلك على أربعين مقعداً بمدرسة بخت الرضا الأولية، ومن يقع عليه الاختيار عليه إعادة الدراسة مرة أخرى بالصف الثالث، قبل أن ينتقل إلى الصف الرابع لتحق له المنافسة على الالتحاق بالمدارس الوسطى. أما من لم يسعدهم الحظ بالالتحاق بمدرسة بخت الرضا الأولية، رغم تميزهم ونبوغهم واجتهادهم فعليهم بالإعادة، والتي ليس فيها منقصة بل هي شيء متوقع ومستحق، عام دراسي، وراء عام دراسي آخر، حتى العبور أو الاستسلام، فالتعليم في بحر أبيض كان هو ايضا قسمة ونصيب، رغماً عن ذلك لم يكن ليتبادر لأذهان أهالي بحر أبيض شعور بالتهميش أو يساورهم الظن بالتهميش، أو معنى التهميش، لكنه كان هو التهميش.
التهميش، حسب التعريف المتعارف عليه، هو حالة وعملية تحول بين الأفراد والجماعات من المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يتمتع بها المجتمع الأوسع. وانطلاقاً من هذا المفهوم فإن الحالات والأحداث التي جرت والجارية على ساحات بحر أبيض هي حالات تهميش كبرى أسهم فيها إنسان بحر أبيض نفسه، بصبره وترفعه وتعففه الذي زاد عن حده فانقلب تهميشاً إلى ضده.
تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني