الجمعة , نوفمبر 22 2024
أخبار عاجلة

الطعن في الوثيقة الدستورية من إختصاص الشعب

صرخة نملة/ د. أمجد عبد السلام:

إن الوثيقة الدستورية كُتبت بأغلى مخطوط وهي دماء الشهداء الطاهرة، كي تغسل المفاهيم والممارسات التي إنتهجها النظام البائد لدحر كل معاني الإنسانية وتدمير دولة السودان لتعلو مصالح الرجرجة المنتسبين للمؤتمر اللاوطني؛ إلا أن إرادة الشعب السوداني تفوقت على كل أساليب الدكتاتورية وقمع العتاد الحربي في وجه السلمية، لأن هذا الشعب يؤمن بقضية الوطن والمواطنة، فإتخذ من الحرية والسلام والعدالة أسمى شعاراته، وها هو اليوم يمضي قُدماَ في تفكيك النظام البائد وإزالة التمكين وبناء الدولة؛ بيدا أن هناك أناس يحاولون إرتداء جماليات الوثيقة الدستورية زيفاً وإستغلالاً لمآرب شخصية، سعياً منهم في هدم كل ما تم من إتفاق سياسي جسدته الوثيقة الدستورية ، فقاموا بتقديم طعن إلى المحكمة الدستورية لإلغائها أو عدم شرعيتها؛ جهلاً منهم بأن من يُكسب الوثيقة الدستورية شرعيتها وقوتها هو شعب السودان العظيم وليس المحكمة الدستورية؛ كما سأبيِّن ذلك لاحقاً لمن أراد الوقوف في وجه تيار الثورة السودانية ولعلهم يفقهون:
المحور الأول : ماهو الدستور ومدى إنطباق عناصره على الوثيقة الدستورية:
إن الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تُبيِّن شكل الحكم في الدولة ونظامه, وتحدِّد السلطات الأساسية المختلفة فيها، وتنظِّم العلاقة القائمة فيما بين بعضها البعض, أو فيما بينها والمواطنين, من خلال ما يتم الاعتراف به من حقوقٍ وحريات لهم في مواجهة الدولة؛ فالدستور إنما هو “تعبيرٌ عن الإجماع الموثَق كتابةً وعرفاً, الناتج عن شورى كل المجتمع أو ممثليه لبناء سلطانه- حدودَ حريات وحرمات وحقوق في الحياة العامة, وبنيات أجهزةٍ للحكم ومدى سلطانها, وآجال ولاتها تشريعاً وتنفيذاً وقضاءً؛ فمن ذلك نجد أن الوثيقة الدستورية قد إستوفت متطلبات وضع الدستور حيث بيَّنت شكل الحكم كما ورد في المادة (6) من الوثيقة في فقراتها الثلاث بخضوع الجميع لحكم القانون وعلى السلطة الإنتقالية إنفاذه بتطبيق مبدأ المساءلة ورد الحقوق وعدم السقوط بالتقادم لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والقتل خارج القانون والفساد المالي وإنتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؛ كما أوضحت الوثيقة مستويات الحكم من إتحادي وإقليمي أو ولائي ومحلي إستناداً للمادة (9)، كما بيّنت شكل الدولة فنصت المادة (4) على طبيعة الدولة فجاء فيها : ( (1) جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة ، ديمقراطية ، برلمانية ، تعددية ، لا مركزية ، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الإجتماعي أو الإقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الإنتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب .
– (2) تلتزم الدولة بإحترام الكرامة الإنسانية والتنوع وتؤسس على العدالة والمساواة وكفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية )؛ كذلك لم تغفل الوثيقة الدستورية سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتقسيم أجهزة الدولة إلى مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي وإختصاصات كل منهم، بل حددت مدة الفترة الإنتقالية ب )39شهراً) كما نصت عليه المادة (7) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، وتطرقت الوثيقة الدستورية للسلطة القضائية في الفصل الثامن منها في المواد (29-31)، والأهم من ذلك إشتملت الوثيقة الدستورية على وثيقة الحقوق والحريات في المواد (42 – 67) ؛ مما يدل كل ذلك إلى أن الوثيقة الدستورية جاءت شاملة لكل مقومات الدستور، وكي تلبي ما ثار من أجله الشعب السوداني في ثورة ديسمبر المجيدة وتخرجهم من ظلمات الشمولية والدكتاتورية والإستبداد إلى نور الديمقراطية وبناء دولة القانون، ليتمثل ذلك في إتفاق سياسي هو جوهر الوثيقة الدستورية؛ فحتى لو إفترضنا جدلاً صدور حكم بإلغاء الوثيقة الدستورية سيظل الأمر على ماهو عليه بموجب الإتفاق السياسي وفقاً لنص المادة (71) إستمدت أحكام هذه الوثيقة الدستورية من الإتفاق السياسي لهياكل الحكم في الفترة الإنتقالية الموقعة بين المجلس العسكري الإنتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير ، وفي حالة تعارض أي من أحكامها تسود أحكام هذه الوثيقة) ويظل الإتفاق السياسي قائماً.
المحور الثاني: إختصاصات المحكمة الدستورية:
إن الوثيقة الدستورية لسنة 2019م قد حكمت على دستور السودان الإنتقالي لسنة 2005م بالعدم وفقاً لنص المادة (2) من الوثيقة الدستورية، وبالتالي فإن الذي يسري من أحكام يكون وفق الوثيقة الدستورية والقوانين السارية التي لم تعدل بعد لما أوردته الوثيقة من استثناء؛ فبالرجوع إلى الوثيقة الدستورية نجد أن المحكمة الدستورية قد إقتصرت إختصاصاتها في الرقابة على دستورية القوانين والتدابير وحماية الحقوق والحريات والفصل في النزاعات الدستورية، وهذا ما أوردته المادة (31)، مما تدل دلالة واضحة على عدم وجود أي إشارة إلى إمكانية إلغاء الوثيقة الدستورية أو تعديلها، بل هي ملزمة بإتباع ما ورد في الوثيقة الدستورية من نصوص.
– نصت المادة (15) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م على إختصاصات المحكمة الدستورية وإعتبرتها حارسة للدستور وليست هادمة له، حيث نصت المادة على الإختصاصات التالية : (( أ) تفسير النصوص الدستورية بناءً على طلب من رئيس الجمهورية أو الحكومة القومية أو حكومة جنوب السودان أو حكومة أي ولاية أو المجلس الوطني أو مجلس الولايات ،
– (ب) الاختصاص عند الفصل في المنازعات التي يحكمها الدستور ودساتير الولايات الشمالية بناءً على طلب من الحكومة أو الشخصيات الاعتبارية أو الأفراد ،
– (ج ) الفصل في الإستئنافات ضد أحكام المحكمة العليا لجنوب السودان في القضايا المتعلقة بالدستور الانتقالي لجنوب السودان ودساتير ولايات جنوب السودان ،
– (د ) حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ،
– (هـ) الفصل في دستورية القوانين والنصوص وفقاً للدستور والدستور الانتقالي لجنوب السودان أو دساتير الولايات المعنية ،
– (و ) الفصل في النزاعات الدستورية فيما بين مستويات الحكم وأجهزته بشأن الاختصاصات الحصرية أو المشتركة أو المتبقية ،
– (ز ) الاختصاص الجنائي في مواجهة رئيس الجمهورية والنائب الأول لرئيس الجمهورية وفقاً لأحكام المادة 60 (2) من الدستور كما لها اختصاص جنائي في مواجهة نائب رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي الهيئة التشريعية القومية وقضاة المحكمة القومية العليا وقضاة المحكمة العليا لجنوب السودان .
– (ح ) أي اختصاصات أخرى يحددها الدستور أو القانون أو دساتير أي من الولايات )؛ وفي هذا النص قد ألغى كل حكم يتعلق بجنوب السودان، والمقصود بالدستور هنا في الوقت الراهن هو الوثيقة الدستورية التي حلت محل الدستور الإنتقالي لسنة 2005م، وبالإستقراء لتلك الإختصاصات لا نجد أن إلغاء الدستور من ضمن إختصاصات المحكمة الدستورية؛ بل يجب على المحكمة الدستورية أن تلتزم بكل ما ورد في الوثيقة الدستورية لسنة 2019م إمتثالاً للقسم التي أدوه أعضائها وفقاً لما ورد في المادة (12) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م والتي جاء فيها : (” أقسم بالله العظيم أن أحترم نصوص الدستور ودساتير البلاد وقوانينها ، وأن أراعي موازين العدل ، مؤدياً للأمانة متجرداً ، وأن أقوم بواجبي دون رغبة أو رهبة أو محاباة “)، فدستور السودان آنياً يتمثل في الوثيقة الدستورية التي ألغت الدستور الإنتقالي.
فكل ما ذكرناه آنفاً يمنع المحكمة الدستورية من إصدار قرار يتوافق مع أي طعن يُطلب فيه بإلغاء الوثيقة الدستورية؛ وهذا لا يعني عدم تصريحها نسبة إلى أن تصريح عريضة الطعن المقبولة شكلاً من سلطات المحكمة الدستورية في الإجراءات المتبعة إستناداً لنص المادة (19/6)؛ إلا أنه يجب عليها شطب ذلك الطعن إيجازياً كقرار مناط بها تماشياً مع نص المادة (20) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م والتي جاء فيها : (20ـ إذا تم تصريح عريضة الدعوى يجوز للمحكمة بعد مناقشة مقدمها أو من يمثله إذا لزم الأمر أن تأمر بشطبها إيجازياً إذا تبين لها أن :
(أ ) مقدم العريضة ليس له حق أو مصلحة في إقامة الدعوى أو أن مصلحة أو حق المدعي قد مضى عليه أكثر من ستة أشهر من تاريخ علمه بذلك ،
(ب) العريضة لا تشتمل على مسألة صالحة للفصل فيها ،
(ج ) العريضة لا تشتمل على اضرار بحق ظاهر لحق من وثيقة الحقوق والحريات ،
(د ) مقدم العريضة لم يستنفد كافة طرق التظلم المتاحة له)؛ فإذا كان الطعن مقدم لإلغاء الوثيقة الدستورية فعلى المحكمة الدستورية شطب العريضة إيجازيا تماشياً مع الفقرة (ب) من المادة المذكورة أعلاه لنفي الإختصاص عن المحكمة الدستورية.
إن الجهة التي تمتلك أحقية إلغاء الوثيقة الدستورية أو تعديلها هو المجلس التشريعي الذي يعض بالنواجز على مكتسبات الثورة ويُقوِم كل إعوجاج عن المسار الذي مهده الشعب السوداني بإعتباره الجهة الرقابية للسلطة التنفيذية من مجلسي السيادة والوزراء؛ فإختصاص المجلس التشريعي في إلغاء الوثيقة أو تعديلها ينعقد له بموجب المادة (78) والتي جاء في فحوها : ( لا يجوز تعديل أو إلغاء هذه الوثيقة الدستورية إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الإنتقالي) .
المحور الثالث: كيفية الحفاظ على مكتسبات الثورة:
إن الحارس الوحيد لمكتسبات الثورة وتحقيق شعاراتها هو الشعب السوداني إستنباطاً من الشرعية الثورية والقانون، ولا تملك المحكمة الدستورية هدم ما توافق عليه أطياف الشعب السوداني عدا المتملقين والمخربين من منتسبي النظام البائد وأعوانهم؛ فكما صدر قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لسنة 1989م وإزالة التمكين لسنة 2019م بغرض التخلص من شوائب الماضي وتشييع الدكتاتورية والفساد والنظام البائد إلى مزبلة التاريخ، فعلينا أن نتبع تلك المنهجية بإتباع نص المادة (25/3) من الوثيقة الدستورية في تشريع قانون مجلس القضاء العالي من قبل مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين لتمثيلهم السلطة التشريعية في الوقت الراهن، ويتم تشكيل مجلس القضاء العالي حتى يقوم بتعيين قضاة المحكمة الدستورية، وذلك لما أوردته المادة (29) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م؛ فمن أجل الحفاظ على ثورة عبدت طرقاتها بأجساد طاهرة وروت أراضيها بدماء الشهداء والجرحى يفرض علينا قسماً بأننا لن نستكين أو نتوانى أمام كل من أراد بالسودان وشعبه سوء؛ وسنظل ندعوا بالرحمة والمغفرة لمن روت دماؤهم تراب هذا الوطن لتطهره من دنس الكيزان، وعاجل الشفاء للجرحى، والعود الجميل والغانم للمفقودين؛ فسننحت في جبال الصمود شعارات ثورتنا وندك كل عرش للطغاة.

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا

أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا