الجمعة , نوفمبر 22 2024
أخبار عاجلة

سكب وقود القانون على نيران المنظومة العدلية

صرخة نملة/ د. أمجد عبد السلام:

    إن ثورة ديسمبر المجيدة كانت نتاج تضافر جهود الشعب الذي رفض الإستبداد والشمولية والدكتاتورية التي هيمنت بجبروتها وطغيان فاعليها على مستويات الحكم ومنظوماته وأنظمته بما في ذلك المنظومات العدلية من خلال إنتهاج سياسة التمكين على صعيدي الكادر البشري والجانب التشريعي، مما نتج عن ذلك التدهور والدمار المطلق في شتى المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية وبما في ذلك المنظومات العدلية والتشريعية، لذا جاءت الثورة تحت مظلة الحرية والسلام والعدالة، التي تعتبر أبلغ شعارات للتغيير، بالسير في خطين متوازيين: أولهما تفكيك تلك المنظومة الدكتاتورية وتعديل النصوص المُمَكِّنَة لها، والخط الثاني يكمن في عملية البناء لأي منظومة أو أجهزة أو أي كيان يحقق متطلبات الثورة وأجلها العدالة، ومن ثم تعديل النص بما يتوافق مع المناخ العدلي والديمقراطي الذي ينشده كل غيور على هذا الوطن؛ فقدمت اللجنة الفنية لقوى الحرية والتغيير مشروع قانون مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية مستندين على  الوثيقة الدستورية التي نصت على مهام الفترة الإنتقالية في المادة 8- وفي البند الخامس منها أوردت أن من ضمن مهام الفترة الإنتقالية: الإصلاح القانوني وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان إستقلال القضاء وسيادة القانون ؛ وكذلك نص البند (15) على: تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989م و بناء دولة القانون والمؤسسات, وهي الفلسفة االقانونية التي إستصحبتها اللجنة الفنية في هذا المشروع، إلا أني أعيب على هذا المشروع المقدم بالنظر إلى نواحي عديدة ألخصها فيما يلي:

(1) تتشكل المفوضية من رئيس القضاء والنائب العام ووزير العدل وممثلين لكل منهم، وممثلين من المحامين وكليات القانون، وستة أعضاء آخرين يتمتعون بالخبرة والكفاءة، وفي ذلك قصور تشريعي لما يلي:

(1) إقحام السلطات العدلية في بعضها البعض وتجاهل إستقلالية كل منها عن الأخرى، فالوثيقة الدستورية قد فصلت بين السلطة القضائية حيث نصت عليها في الفصل الثامن بينما جاءت النيابة العامة في الفصل التاسع، فإذا إتخذت هذه المفوضية قراراً في مواجهة أي منظومة يكون تدخلاً في عملها وفقد إستقلاليتها، حيث لا يوجد أي تداخل بينهم من جانب الأداء والهيكلة.

(2) نقابة المحامين نقابة مستقلة وفقا للقوانين الداخلية والدولية، لا يمكن أن تنطوي داخل مفوضية مهما كانت المبررات؛ ولتحقيق إزالة التمكين كان ذلك عبر لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لعام 1989م وإزالة التمكين.

(3) خلت المفوضية من ممثل للمحكمة الدستورية، وفي ذلك إجحافا بيِّناً للوثيقة الدستورية في المادة 31- منها والتي أوردت بأن المحكمة الدستورية مستقلة ومنفصلة عن السلطة القضائية، فالسؤال الذي يفرض نفسه: كيف لمفوضية مكونة من رئيس القضاء والنائب العام …الخ تتحكم في هيكلة وأداء المحكمة الدستورية التي تنفصل عنهم تماماً؟

(4)  جاء مبرر اللجنة الفنية في دمج رؤساء المنظومات العدلية داخل المفوضية سيجد إستقلالية الأجهزة تلك بتشكيل لجان فرعية ترفع توصيتها للمفوضية وإتخاذ القرار: فلو سلمنا جدلاً بأن ذلك سيمنح الإستقلالية لكل منظومة عدلية بإعتبار أن كل من يمثل منظومته يكون رئيساً تلك اللجنة الفرعية، أيس من الأوفق أن تشكل لكل منظومة عدلية تضبط مهامها وإختصاصاتها وتحقق الغرض من ذلك المتمثل في تفكيك بنية التمكين داخل المنظومة العدلية، مثل مجلس القضاء العالي للسلطة القضائية والمحكمة الدستورية، ومجلس النيابة العالي بالنسبة للنيابة العامة، ومجلس لتنظيم وزارة العدل … وهكذا، وفي ذلك تحقيقاً للغرض المنشود والتخلص من الكوزنة والتمكين والدكتاتورية، وضماناً لإستقلالية كلا منهم عن الأخر.

(5)  جاء تبرير اللجنة الفنية بأن مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة العالي وغيرها بها أشخاص خارج المنظومة العدلية، وهذا مبرر يدعو للغرابة فقد جاء في مشروع مفوضية إعادة بنناء المنظومة الحقوقية والعدلية ستة أشخاص من خارجها، بل كل منهما خارج عن تشكيل الأخر فالنائب العام خارج السلطة القضائية، ووزير العدل خارج عن النيابة العامة ورئيس القضاء خارج عن النيابة العامة ووزارة العدل.

(2) إن تعيين أعضاء المفوضية يكون من قبل مجلس الوزراء الذي يمثل السلطة التنفيذية، فكل الدساتير والإتفاقيات والقوانين تفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية.

(3) هذا المشروع قد جرد المنظومات العدلية من مهامها وإختصاصاتها وأفرغ محتوى المنظومات العدلية المختلفة، وبيان ذلك يكون وفقا لما يلي:

(1) المفوضية تصدر قرارا ملزما لأي من المنظومات العدلية، مما يعطي المفوضية حق الهيمنة على سلطات من الواجب أن تمارس سلطاتها ومهامها بكل إستقلالية وتجرد

(2) تنازع الإختصاص بين المفوضية ومجلس القضاء العالي ومجلس النيابة العالي وغيرهم، من خلال تفكيك بنية التمكين بالتعيين أو العزل أو الترقية ونحوها، فإذا صدر قرارين متناقضين من المفوضية أو مجلس القضاء العالي مثلاً فأيهما ينفذ؟ مع إستصحاب أن كل منهما يتمتع بسيادة أحكامه.

(3) مُنحت المفوضية حق إبتدار مشروعات القوانين، وفي ذلك سلب لحق وزارة العدل من إختصاصاته المتمثلة في دراسة وصياغة مشروعات القوانين وسائر التدابير التشريعية في الدولة إستناداً على نص المادة 4(د) من قانون تنظيم وزارة العدل لسنة 2017م، وتجاوزاً لنص المادة 16(3) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م التي أعطت حق إبتدار مشروعات القانون لمجلس الوزراء، عبر وزارة العدل.

(4) إن الطعن في قرارات المفوضية بالشاكلة المنصوص عليها في مشروع المفوضية تجعلنا أمام حيرة من الأمر، كيف لمن تضرر من قرار المفوضية أن يطعن في القرار لذات الجهة التي كانت أصيلة في إصداره، ويتأتى ذلك عند صدور قرار من المفوضية ضد أحد القضاة، فكان من الأوفق جدلاً أن تنشأ هيئة إستئنافية مستقلة لتحقيق مقتضيات العدالة.

وخلاصة ما أوردناه فإن هذا المشروع من الأفضل توزيع نصوصه وإقحام الفلسفة القانونية منه في القوانين المنظمة للمنظومات العدلية لكل منهم على حدى، مثل قانون مجلس القضاء العالي وقانون مجلس النيابة العالي وقانون تنظيم وزارة العدل وقانون المحاماة وقانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، وذلك لإصلاح المؤسسات الحقوقية والعدلية من سلطة قضائية ومحكمة دستورية ونيابة عامة ووزارة العدل ونقابة المحامين وكليات القانون بالجامعات السودانية؛ حتى تتمكن كل منظومة عدلية من إجراء الإصلاحات بمنتهى الإستقلالية والإطلاق التنفيذي وفقاً للقوانين المنظمة لها؛ وحتى نتجنب سكب وقود القانون بما أوردناه من تجاوزات،في نيران المنظومة العدلية التي نقر بأنها تحترق بلهب التمكين الذي حدث من النظام البائد وتوشحها بالدكتاتورية؛ والأعظم من ذلك أن تشاب هذه النيران كل أجزاء المنظومة العدلية وتنفيذ قراراتها حيث من الراجح جداً أن ينشأ تنازع للإختصاص والقوانين وصراع حامي الوطيس بين المنظومات العدلية المختلفة ونحن في غنى عن ذلك ونبرز منه ما يلي:

(1) إن رئاسة المفوضية قد منحت لرئيس القضاء بموجب المشروع المقدم، وفي الوقت ذاته رئيس القضاء يتحفظ على مشروع قانون مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية

(2) رئيس القضاء لتحفظه على هذا المشروع، يتعدى على سلطات وزير العدل الممنوحة له في صياغة مشروعات القوانين، ويقدم قانون مجلس القضاء العالي

(3) رئيس القضاء يسد الباب أمام الثورة والعدالة الإنتقالية بتقديم مشروع قانون مجلس القضاء العالي دون أن نُطبِّع نصوصه ونطوعها لإصلاح السلطة القضائية والمحكمة الدستورية وتفكيك النظام البائد وإزالة التمكين والقضاة الذين تم تعيينهم لخدمة أجندة سياسية، وذلك عند غض الطرف عن مشروع قانون المفوضية

(4) إن إنشاء مجلس القضاء العالي أمر فرض كينونته بالوثيقة الدستورية بموجب المادة 29- مما لا يمكن الإستغناء عنه، ومع ذلك سنشهد تنازع كبير جدا طوال الفترة الإنتقالية بينقالمفوضية ومجلس القضاء العالي ومجلس النيابة العالي.

      ومع هذا فإن الحل الأمثل لتجاوز هذا اللقط والصراع الذي لا يحدوه أدنى تبرير من خلال ضبط نصوص قانون مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة العالي لتحقيق الفلسفة القانونية من تلك القوانين بإصلاح المنظومة العدلية بما فيها إزالة التمكين عبر نص بعنوان حكم إنتقالي يعطي الحق ولو على سبيل التأقيت تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م والزج بمتملقيهم خارج المنظومة التي تعتبر الركن الأول للثورة ألا وهي العدالة؛ وفي خط موازي أيضاً تنشأ مفوضية الإصلاح القانوني التي نستند في إنشائها للمادة 39(4)(أ) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، لتعمل مفوضية الإصلاح القانوني على الإصلاح المؤسسي والتشريعي بموجب قانون تضبط نصوصه بحيث تنسق وتتوافق مع المجالس المنشأة دون أي تقاطعات؛ ولا يتأتى ذلك إبتداءً إلا بإيقاف إجازة قانون مجلس القضاء العالي المقدم من القضائية إلا بعد مراجعته، فنحن في مرحلة لابد أن تعمل فيها المنظومات العدلية بتوافق تام ولا سبيل للعناد الفكري في درب تحقيق العدالة التي سُكبت من أجلها الدماء؛ فالرحمة والمغفرة لمن سالت دماؤهم لتروي تراب هذا الوطن وتطهره من الظلم والإستبداد والدكتاتورية والكوزنة، وعاجل الشفاء للجرحى والعود الأحمد للمفقودين إلى رحااب الدولة المدنية التي يسود فيها حكم القانون.

#منظومة_عدلية_مستقلة   #تفكيك_بنية_التمكين_واجب_ثوري   #22فبراير2020م.

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا

أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا