هل قرأت مقالي الأخير عن محمد أحمد المحجوب؟”.”مؤكد”.”حاربه الإنجليز والأمريكيون ففضلوا عليه شارل مالك لرئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة”.”لقد أخذوا بثأرهم منه””ذلكم هو التفسير. المحجوب وقف مع جمال ناصر في تأميم القناة، أعطاه كل خبرته القانونية أيام العدوان الثلاثي. الغريب أن ناصر تآمر عليه مع الضباط الأحرار الذين انقلبوا على الديمقراطية! عجيب أمر البشر! عجيب. خذ مثلاً: الأمريكيون والإنجليز…للعجب! يشبهون كائنات لا يألفونها! يشبهون جمال الصحراء! نعم إنهم يجيدون الحقد. أحدهم قال لصديقنا منصور أثناء الزيارة الرئاسية الشهيرة لجعفر نميري لإنجلترا (أين ذلك الشاب اللامع الذي عمل معنا على تأسيس وزارة للخارجية في السودان؟) فأجابه منصور (المحجوب! إنه يعيش قريبا من هنا، لقد اختار لمنفاه سلون سكوير)؛ عندئذ صاح الإنجليزي (لا. لا. أنا لا أقصد محجوب، محجوب أعرفه جيدا لكنني أقصد ذلك الذي كان شابا لامعا متوقد الذهن سوبر ماينديد … أظنه زروق … زروق …) فساعفه منصور أنت تقصد مبارك زروق. ساعتئذٍ صاح الإداري الإنجليزي (هذا هو. نعم. نعم. مبارك زروق من أقصد. المحجوب محامي ضليع ورجل ذكي لكنه معجب بنفسه لحد الغرور).”كان مهندساً وقاضياً ومحامياً وسياسياً لا يشق له غبار. فوق ذلك كان شاعراً مجيداً وعروبياً عتيداً”. “لم نعرف الطريق إلى فنادق مثل الدورشستر والريتز والكلاريدج إلا معه. كان كريماً جداً معنا”.”عثمان وقيع الله قال لي إنه لم يكن يسمح لك بقراءة شعره!””لا أنا ولا غيري. الشخص الوحيد الذي كان يسمح له بقراءة شعره هو عثمان وقيع الله نفسه”.”مرة قال لي عثمان أنا راضٍ عن حياتي، أظن أن المولى سيغفر لي ذنبي لأنني كتبت المصحف الشريف من ألف لام ميم إلى الناس، ثم كتبت بخط يدي وزينت برسوماتي ديوان المحجوب (مسبحتي ودنِّي) ثم أخيراً صنعت لكل قصيدة في غابة الأبنوس لصلاح لوحة”.”رسوماته للمحجوب كانت بالأبيض والأسود لكن عثمان كان سخيّاً مع صلاح فأرهق نفسه بالتلوين”.”أنا أحب له لوحة (أحبك)””فقط كتب الكلمة: أحبك … لكن اللون والخط … يا إلهي! كان يحب صلاح وشعر صلاح”.”الغريب أن صلاح كان صديقاً أثيراً … بل الصديقَ الأعزَّ لعليِّ المك مع أن الشخصيتين مختلفتان جدا!””صلاح كان يحب عليَّاً حبَّاً شديداً ويمقت منصور مقتاً شديداً. لم يعرف صلاح التوسط مطلقاً. كان ثائراً متدفقاً مندفعاً ذا أنفةٍ مفرِطة””مثل المحجوب”.”لا، المحجوب كان أولد فاشوند، هكذا وصفته صحيفة التايمز حينما وصفت إيمانه بالديمقراطية””أنا قرأت النسخة الإنجليزية لكتابه ديموقراسي أونْ تيرالْ فأعجبني أسلوبه وتاريخه. لكنه وللدهشة! لم يذكر فيه حادثة طرد نواب منتخبين، طرد النواب الشيوعين من البرلمان! مع أنه وقف عند حادثات أقلّ خطراً وشأناً!”.”هذا يعيدك لقولي إن السودانيين لا يحبون السودان إنما يحبون الطائفة والقبيلة”.”لكن المحجوب لم ينتمِ لحزب الأُمَّة إلا في وقت متأخر!””المحجوب كان يقدم نفسه كما وصفه الإنجليز. لو قدم السودان لما وقف مع طرد النواب المنتخبين. طرد النواب أتى لنا بانقلاب مايو. المحجوب عندي وعندك يشفع له شعره”.”أنا أحب له قصيدته: في الركن …””في الركن شمعتها مؤرقة*لتضيء حجرتها على وهنِ”وتنازع النهدان في قلقٍ* ثوباً يواري فتنة الزمنِ يا الله! لكن أنا أحب له (الفردوس المفقود) لما فيها من عروبة، وجدان ثم نجوى فذكرى معذَّبة. أحب له وصفه لجبال الألب حينما تأملها من نافذة الطائرة! هل تذكر البيت؟”.”ليتَ شيبي كشيبها موسميُّ * يرفع الصيفُ عن صباهُ القناعَا”. ساد صمت.ثم سمعت “آه”.ثم سمعت صوت القداحة تقدح فعلمت أن سيجارة سيلكت أخرى قد امتد إليها اللهب، امتدت إليها أصابع الفناء.
شاهد أيضاً
«اليوم العالمي للسكري»: جهود مملكة البحرين للارتقاء بجودة الحياة للمتعايشين مع السكري
كشفت البروفيسور دلال الرميحي استشاري الغدد الصماء والسكري بمستشفى العوالي أستاذ مشارك للطب الباطني في …