سياسات دقلو في مصارعة “الضولار”
نجم الدين داؤد
الطبيعي والأساسي في مجال صناعة السياسات العامة سواء كان التفكير في إلغاء سياسة قائمة أو تبني سياسة جديدة فإن متخذ القرار يحتاج اولاً إلى القيام بدراسة وتقييم السياسة الحالية القائمة , تقييم فني بواسطة جهة حكومية فنية متخصصة في التقييم والمتابعة أو بواسطة بيت خبرة محترف ومستقل، كما يتطلب ذلك القيام بتحليل البيئة والسياقات التي تؤثر على مشروع السياسية العامة أو تتأثر به سلبا كان أو إيجابا من أجل الوصول إلى نقطة القرار المناسب سواء كان بتغير السياسة أو الاستمرار فيها.
أما تصميم السياسة العامة يحتاج الى القيام بجمع المعلومات وتحليلها للوصول إلى سياسة جديدة ومن ثم تصميمها كمشروعات وبرامج مبنية ومسنودة بأدلة منطقية مكتوبة و مدعومة بدراسات تحدد مدى جدواها من عدمه، كل هذه مهام تحضيرية قبل الوصول إلى مرحلة وضع مشروع السياسة العامة في طاولة متخذي القرار لغرض اعتماده ومن ثم بحث آليات التنفيذ وتحديد الوقت المناسب لتطبيق السياسة المعنية و متابعتها.
هذه الخطوات تستغرق وقتاً قد يصل إلى العام في بعض الأحيان وقد يزيد، مثلما حدث في إعداد وتطبيق سياسة سعر الصرف المرن المدار التي كلفت الحكومة الانتقالية في السودان أكثر من عام اعداداً وتحضيراً وهي ذاتها السياسة التي تم الغاءها أمس الأول الإثنين بواسطة لجنة مطاردة الدولار.
هذه السياسة هي أهم سياسة للاستقرار الاقتصادي في السودان تم تطبيقها ، وهي إحدى أفضل السياسات العامة من حيث التحضير والتصميم والتطبيق والنتائج في تاريخ السودان، وقد بذلت الحكومة الانتقالية جهداً وعملاً مبكرا اً في سبيل تهيئة بيئة مناسبة لنجاحها، حيث قامت ببناء احتياطي من النقد الأجنبي عن طريق استقطاب الدعم الخارجي وادخال عائدات الصادر إلى النظام المالي وتهيئة النظام المالي نفسه بشكل جزئي ليتمكن من استقبال تحويلات السودانيين والسودانيات العاملين بالخارج ، ولم تقف الحكومة الانتقالية عند هذا الحد؛ بل قامت بدراسة النماذج والتجارب العالمية الناجحة في توحيد سعر الصرف من بينها تجارب دول مثل دولة كينيا والأرجنتين – وقد كنت شاهدا ومشاركاً في ذلك- ، بل إن العديد من الخطوات والسياسات الاستباقية والتحضيرية تم اتخاذها مسبقا بغرض تمكين السياسة من تحقيق أثر ملموس في وقت وجيز فور تطبيقها، بالإضافة إلى العمل الكبير الذي قامت به لجنة متابعة تنفيذ سياسة توحيد سعر الصرف برئاسة المهندس خالد عمر يوسف في سبيل تذليل العقبات والتحديات التي تواجه نجاح السياسة أثناء تطبيقها ووضع التدابير الوقائية لمواجهة المخاطر المتوقع نتوجها عن عملية مقاومة التغيير وضعف أداء جهاز الخدمة العامة وغيرها.
جميع هذه العوامل أسهمت في أن تحقق سياسة سعر الصرف المرن المدار نجاحاً منقطع النظير و
اثراً إيجابياً سريعاً ومباشراً أدى إلى استقرار سعر الصرف في البلاد وتقليص الفجوة في سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي بين السوق الموازي والسعر الرسمي من أكثر من 200% إلى أقل من 12% خلال مدة لم تتجاوز الخمسين يوماً،
هذا النجاح الكبير تم هدمه وتدميره بقيام لجنة الطوارئ الاقتصادية الانقلابية- ارتجالاً – بإلغاء سياسة سعر الصرف المرن المدار وتعويم الجنيه السوداني تعويماً شاملا كاملا “في سوق الله أكبر” بعد أقل من ٢٤ ساعة من تشكيل اللجنة واداء أعضائها لليمين الدستوري ! من لحظة تشكيلها
و في الوقت الذي فقد فيه بنك السودان المركزي حجم الاحتياطي من الذهب الذي تم بناءه بواسطة الحكومة الانتقالية و خلو بنك السودان المركزي من كتلة الاحتياطي النقدي في ظل توقف جميع المشروعات والاتفاقيات التي كانت يتم تمويلها بواسطة شركاء السودان والمؤسسات الدولية ، و إحجام السودانيين والسودانيات العاملين بالخارج عن التحويلات المالية عبر النظام الرسمي ، اضافة إلى تراجع قيمة الصادرات الزراعية من 293 مليون دولار في ديسمبر 2021 الي 43.5 مليون فقط في يناير 2021 بنسبة فاقد أكثر من 80% خلال شهر واحد ومع تنامي تكاليف الإنفاق على حماية الانقلاب المتهالك جميعها عوامل تسهم بشكل مباشر في تراجع وانخفاض الحجم المعروض من النقد الأجنبي في البلاد متلازمة مع تنامي حجم الطلب عليه في السوق، والناتج هو اختلال توازن السوق و عودة أنشطة المضاربات الكبيرة في النقد الأجنبي مما يعني تراجع قيمة الجنيه السوداني نتيجة لتراجع مستوي عرض النقد الأجنبي في السودان وارتفاع الطلب عليه جراء العوامل المذكورة أعلاه .
ان تقيم وتوقع النتائج والآثار المدمرة لمثل هذه النوع من قرارت التخريب والهدم على حياة سكان السودان وعلي المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد السوداني ولن يحتاج الإنسان إلى ذكاء خارق لمعرفة ذلك ولم ينقضي يوما واحدا على انتحار الانقلابيين بالبلاد وانقلابهم معا بخطوة تغيير إلغاء سياسة سعر الصرف المرن المدار وتعويم الجنية السوداني بهذه الطريقة المثيرة للسخرية حتى فقد الجنيه السوداني أكثر 12%من قيمته أمام العملات الأجنبية، وبدأت جميع المؤشرات الاقتصادية يتهاوى وأصبح مسألة وأمر انهيار الاقتصاد السوداني أصبح أمرا حتما إذا استمر هذا الانقلاب في الحكومة ولم تقوم بالتراجع عن هذه الخطوة التي اصبح الرجوع عنها لن تكون سهلا على الاطلاق وسوف ينهار الجنيه السوداني وكذلك النظام المالي مع تنامي أنشطة المضاربات في السوق الموازي وسوف يلتهم التضخم كل شئ وتتاكل الدخول أمام الانفلات في الأسعار نتيجة الانفلات في السوق وغيرها من أوجه الإنهيار الاقتصادي .