الأربعاء , مايو 15 2024
أخبار عاجلة
ايكوسودان

صلاح حاج سعيد… انطفأ قمر الزمان

الخرطوم- محمد الأقرع

غيّب الموت، صباح اليوم الأربعاء، الشاعر السوداني الفذ صلاح حاج سعيد، أحد أبرز شعراء الأغنية في البلاد الذي طالما أثرى وجدان المستمع بأجمل الأعمال وأرق الأحاسيس والأحلام.

ويعد الراحل علامة سامقة في مسيرة الفن، فهو شخصية امتلكت ناصية الحروف وأعاد تدويرها بجزيل الكلمات وبليغ الوصف وعميق المعاني، وكل ذلك بهدف إيصال إحساس صادق عن العشق والعاطفة والوطن.

اجتراح “صلاح حاج سعيد” لعوالم الشعر الغنائي وسطوع نجمه في ستينيات القرن الماضي ومسيرته الممتعة تحوي عدة إشارات آخرها ماهو مرتبط بالوضع العام وقياسات تعالي الفنون وهبوطها، فأعماله لها دلالات تؤكد بأن ثمة زمناً جميلاً مر بهذه البلاد واستوطن وأن الهبوط الذي يحدث الآن ما هو إلا مجرد انحراف عن المسارات الحقيقية المتسامية.

يرى النقاد أن الشاعر الراحل كان الوليد الشرعي للمدنية وآدابها وتعبيراتها الرقيقة، ويحكي الرواي أنه ولد في الخرطوم، وتلقى فيها تعليمه المدرسي قبل أن يلتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة فرع الخرطوم ـ النيلين حالياً ـ سيرته أيضاً تشير إلى أنه التحق بالعمل في عدد من المؤسسات القانونية من ضمنها مؤسسة التأمينات الاجتماعية التي تدرج فيها قبل أن يختار التقاعد في العام 1990م.

بدايات الراحل الفنية كانت حين التقى بزميله دراسته في إحدى المراحل الدراسية، الفنان محمد ميرغني وقدم له عدداً من الأغنيات التي جسدت تلك المرحلة ووثقت لبدايات آخرها عاشها الشاعر الراحل في عوالم العشق والعاطفة، ويبدو أنه ومنذ لحظتها كانت أعماله محتفية بحبيب قد يعود ومحتشدة بالهواجس والتوجس من السير في طريق الحب، ولعل الأنموذج الأبرز لتلك الفترة الأغنية الشهيرة (ما قلنا ليك الحب طريق قاسي وصعيب من أولو ما رضيت كلامنا أبيت براك .. أهو دا العذاب اتحملو).

ملهمة الشاعر الراحل أو الحبيبة المتغناة في أعماله حاول رسم ملامح مختلفة عنها وعن عشقه لها عبر الاستعارة بأوصاف ومعايير غاية في اللطافة والعاطفة كأن يقول مثلاً: “سطوة محاسنك عندي وكتين كبريائك ينهزم/ لطيبتي بي لفظة حنان وكتين مشاعرك تنسجم في عمري تنفح قلبي بي رعشة أمان/ سطوة محاسنك عندي وكتين شوقي يصبح في هواك لعزة ما بتعرف هوان… ألخ”.

تعامل “حاج سعيد” بالإضافة للفنان محمد ميرغني مع عدد من المغنين أبرزهم (البلابل) بـ(نوّر بيتنا)، والفنان عثمان مصطفى بـ(صدقني) و(نحن البينا ما ساهل)، والطيب عبد الله (يخلق من الشبه أربعين)، وله أعمال أيضاً لـ(الهادي الجبل، محمد الأمين، حسين شندي… إلى عصام محمد نور واحمد بركات وشموس)، لكن ظلت العلامة الأميز في تجربته تلك الأغنيات التي ترنم بها الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد الذي برع في اختيارها ووضع لمسات لحنية جاذبة أضافت لها بعداً جمالياً آخر، كانت أغنيات في غاية الإمتاع (المسافة، الحزن النبيل، قمر الزمان، كان نفسي أقول لك من زمان، عدى فات، الشجن الأليم، قلت ليها، طوريتك، عزة هوانا، الزمن الخرافي، عينيك مدن). أغنيات مصطفى البعض صنفها ضمن الأعمال الرمزية التي تفهم في عدة سياقات. وقد وجدت تلك الأعمال قبولاً كبيراً من الجمهور، فقد برع “حاج سعيد” في تقديم شعر غنائي جديد امتاز فيه بالفرادة والتميز.

أشعار الراحل كانت عميقة في التعبير عن أحاسيس متسامحة تخطت خانات الخيبات العاطفية العادية. قد يقول المتابعون إنها باحت بكم هائلة من الشكية لكن المتذوق الحصيف يكتشف أنها كانت تفسيرات عن ماذا حدث؟ أكثر من كونها بكائية نادمة! ويلمح المتذوق أيضاً قدراً من التحدي وتأكيدات الرجوع، تجده مثلاً يقول في قصيدته المشهورة الشجن الأليم “عارفني منك لا الزمن يقدر يحول قلبي عنك لا المسافة ولا الخيال يشغلني عنك… ألخ”. لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة ولطيفة في السياحة عبر أشعار الراحل العاطفية وهي أنه لم يكن يلوم المحبوب مطلقاً بقدر ما يرجع جميع الإشكالات إلى الوشاة أو الزمن وتقلباته، الزمن بالذات مفردة تواجدت بصورة كبيرة، وكان مسار شكوى وبحث عن آخر يحلم به. المسافة العازل بينه وبين محبوبه هي الأخرى وجدت حضوراً طاغياً في شعره وحازت على وصف مدهش.

الإدهاش الأكبر أن أغلبية أشعار “صلاح حاج سعيد” لا تخلو من سيرة العيون وابتكار تفسيرات وتشبيهات غريبة لها مثلاً يقول “عينيك وحاتك غربتي وأهلي وبلادي الفيها ضائع لي زمن”، “عينيك مدن منسية في كتب التواريخ والزمن”، و“عينيك حس أطفال بنادو القمر للغياب يعود”… ألخ. يتفق الكثيرون بأن الغوص في عوالم صلاح حاج سعيد الشعرية بقدر ما هو أمر ممتع إلا أنه يحتاج إلى قدر وافر من اللغة، فالحديث عن الجمال يتطلب لغة موازية.

يقول الصحفي والكاتب “محمد إبراهيم الحاج”، إن الراحل لم يكن يكتب الشعر ترفاً أو نزقاً وإنما يعمل على تكامل القصيدة وبنائها وتماسك أجزائها ليضع المتلقي في وضع المشاهد المترقب للنهايات”. ويضيف “الحاج”: “يبدأ القصيدة هكذا بكلمة أو جملة ممعنة في شد الانتباه كما في (ندمان أنا؟) كتساؤل استنكاري ثم يمضي بعدها في تثبيت (انو ماندمان) رغم إنهم (ماشين علي سكة عدم).

“محمد إبراهيم” ينعى الراحل قائلاً: “رحل صلاح حاج سعيد” قبل أن يقدم لنا تفسيرات لحالة (الشجن) ومترادفاته والتي تلبست معظم قصائده جملاً شعرية صارت مقولات يُستهدي بها للتعبير عن حالات متشابهة (هوى الألم النعيم) (الشجن الأليم) (الحزن النبيل) (لسه بيناتنا المسافة) (جرح الأسى) (أماني كسيرة في خاطر الزمان) (جرح عزة هوانا). وأن سعيدا فات قبل أن يبلغنا عن (الحقيقة الضائعة بين قلبي وعيونك) ولا عن (تباريح الجراحات) التي قضت مضجعه ونقل بها حزن أغنياته لتصبح قاموساً شعرياً خاصاً به. ويختم قائلاً: “رحل صلاح قبل إزالة غموض هذا الدفق الشعري الخطير”.

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان 1

بين مناسبتين عالميتين

من التعبيرات الشائعة في وصف الفن بأنواعه وأشكاله المختلفة أنه هدية السماء إلى الأرض، هو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا