بعد أكثر من عام، على الشروع الفعلي في إنفاذ وثيقة الحوار الوطني، لا يحتاج الأمر إلى كثير جهد للتعرف على واقع معاش الناس، والقول بفشل حكومة الوفاق الوطني التي رأت النور في الثاني عشر من مايو 2017، والتي تجد نفسها محاصرة بأزمة معيشية “خانقة” بلغت ذروتها بأزمة الوقود التي انتهت “نسبياً” بعد ثمانية أشهر من الصفوف، وكذا الحال بالنسبة للرغيف التي تضاربت الأقوال بشأنها، فيما لم تلُح في الأفق أية بشائر حل، بيد أن الأداء الحكومي “الهزيل” الذي دعا إلى إجراء تعديل وزاري “لم يقنع الكثيرين” بعد أقل من عام من عمر الحكومة، سرعان ما يستدعي تساؤلات أكثر حول جدوى مشروع الحوار الوطني، والذي مثل معاش الناس أحد أهم مرتكزات لجانه الست، ومحوراً من أهم محاور جلساته التي استمرت عاماً.
الخرطوم/ محمود النور
القيود الزمنية لمشروع الحوار الوطني، تقول إنه استغرق ثلاث من السنوات، بداية بخطاب الوثبة في يناير 2014، ثم انطلاق الجلسات بقاعة الصداقة في أكتوبر 2015، وكان الختام في أكتوبر 2016 بتسليم الوثيقة الوطنية، وآخيراً تشكيل حكومة الوفاق الوطني في مايو 2017، حيث عُهد إليها بتنفيذ التوصيات التي خلصت إليها اللجان الست، إلا أنه وخلال “سنوات الحوار” تلك ظلت “معيشة” المواطن تتقلب من سيئ إلى أسوأ، وأصبحت الفئة الغالبة من المواطنين تعيش ظروفاً اقتصادية “حرجة” مع توالي ارتفاع الأسعار هندسياً، في مقابل ثبات في الأجور، وارتفاع معدلات التضخم والفقر.
البداية.. قرارات نوفمبر
الشاهد في الأمر، أن “معاش الناس” تلقى صفعة “قاسية” بعد مرور أقل من شهر على تسليم توصيات الحوار، ففي الرابع من نوفمبر 2016، أعلنت وزارة المالية عن زيادة سعر البنزين بنحو 30%، وزيادة سعر كيلوواط الكهرباء 6 قروش عند تجاوز استهلاك الكهرباء 400 كيلوواط، تزامن ذلك مع قرار للبنك المركزي بتحرير سعر صرف الدولار لاستيراد الأدوية بنسبة 130% وتحرير تحويلات المغتربين وتذاكر الطيران للشركات الأجنبية، وإعادة العمل بسياسة الحافز “بدفع قيمة الدولار بالسعر الموازي 15.800 جنيها للدولار بدلا من سعره الرسمي “6.86 جنيهات للدولار” عند شراء النقد الأجنبي، وواجهت تلك الإجراءات غضبة “كلامية” مضرية من قوى الحوار، وقادت بشكل مباشر إلى تنفيذ أول تجربة عصيان مدني في 27 نوفمبر و19 ديسمبر 2016، إلا أن الحكومة تمسكت بتلك الإجراءات.
2018.. موازنة الغلاء
وبحال من الأحوال، لا يمكن الحديث عن ملف معاش الناس، دون المرور على أول موازنة لحكومة الوفاق الوطني، فالإجراءات الاقتصادية الاخيرة،
التي أعقبت إجازة موازنة العام 2018، وبداية العمل بها، أقرت رفع الدعم الحكومي كليا عن القمح، ما أدى لمضاعفة أسعار الخبز، فضلا عن رفع الدولار الجمركي إلى 18 جنيها بدلا عن 6 جنيهات، ما أسفر عن موجة غلاء فاحش، فيما تجاهلت الموازنة موقف الأجور، وبالتالي مزيد من التعقيد في “معاش الناس” وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نواب بالبرلمان، كانوا قد اتهموا وزارة رئاسة مجلس الوزراء بتجاهل توصيات المجلس الوطني فيما يختص بمعاش الناس، واعتبروا ان الوضع الاقتصادي يحتاج الى معالجة جراحية خاصة، ووصف برلمانيون بيان رئاسة مجلس الوزراء بالافتقاد للعلمية والدقة.
التضخم.. مأزق الارتفاع
من المعلوم أن التضخم يعبر عن الحالة الاقتصاديّة التي تتأثر بارتفاع أسعار السلع والخدمات، مع حدوث انخفاض في القدرة الشرائيّة المرتبطة بسعر صرف العملة، وعند إسقاط هذا التعريف على الوضع الاقتصادي خلال سنوات الحوار، وبنظرة سريعة على معدلات التضخم، يبدو القول بالفشل الاقتصادي أمراً وراداً، ففي العام 2014، وهو عام “الوثبة” الذي أُطلقت فيه دعوة الحوار الوطني، وبدأت المشاورات بين الأحزاب والقوى السياسية لوضع خارطة الطريق المؤدية إلى قاعة الصداقة، سجل معدل التضخم في البلاد ارتفاعاً بلغ 46.8% ليصل إلى أعلى مستوى له خلال النصف الأول من العام المالي ذاته، محققاً مستواه الأقصى منذ العام 1997، حين حقق 46.6 %، وفي العام 2015 والذي انطلقت في اكتوبر منه جلسات الحوار “بمن حضر” تقدم معدل التضخم السنوي بنسبة 20% عن العام الفائت، ليواصل الارتفاع في 2016 الذي شهد ختام جلسات الحوار، وتسليم “الوثيقة الوطنية” في أكتوبر، حيث وصل معدل إلى 12.94% زيادة عن العام الذي قبله، إلا أن ذلك لم يمنع كثيرين من التفاؤل بأن تنجح حكومة الوفاق الوطني التي رأت النور في مايو 2017 في المحافظة على ذات المعدل “على أسوأ الفروض” بيد أن العام انتهى وقد قفز التضخم بنسبة 30.74%، إلى 25.15% على أساس سنوي في العام الحالي، وآخيراً في يوليو الماضي، صعد معدل التضخم بنسبة 63.94% على أساس سنوي.
الدولار.. لغز الصعود
بالنسبة لقيمة العملة الوطنية، فقد ظلت تشهد تراجعاً مستمراً مقابل الدولار بالتزامن مع مجريات الحوار الوطني، ففي العام 2014 كان بلغ سعر الدولار الموازي 14 جنيهاً، وبالرغم من أن الكثيرون اعتبروا الأمر بمثابة الكارثة وقتها، إلا أن أكثر المتشائمين لم يكن يتوقع أن يصل الدولار بنهاية أعمال الحوار وتشكيل حكومة الوفاق الوطني إلى 50 جنيهاً في العام 2018، بعد أن فشلت كل المعالجات الحكومية في كبح جماح الدولار، بما في ذلك سياسية التعويم غير المباشر، وسياسية الحافز التي لم تنجح في “إغراء” المغتربين للتحويل عبر القنوات الرسمية، بجانب الإجراءات الأمنية التي استهدفت تجار العملة بغرض تجفيف السوق الأسود، ومع ذلك فقد ظل الدولار هو المتحكم في الأسعار “المحلية” والحجة الأولى عند السؤال عن غلاء الأسعار.
السكر.. متوالية الغلاء
يمثل السكر أحد السلع الرئيسية التي تمثل مؤشراً لواقع الأسعار، وبالتالي لحالة السوق والاقتصاد، وكغيره من السلع ظلت أسعاره تشهد ارتفاعاً “لا تراجع فيه” ففي 2014 “عام الوثبة” كان سعر الجوال “زنة 50 كيلو” 290 جنيه، وكان سعر الكيلو وقتها 6 جنيهات في 2015 تجاوز الجوال محطة 375 جنيه، فيما تحرك سعر الكيلو إلى 8 جنيه، في 2016 وصل سعر الجوال إلى 500 جنيه، ليتجاوز سعر الكيلو الـ 10 جنيهات، بنهاية العام الماضي 2017 كان سعر جوال السكر قد وصل إلى 700 جنيه، ليسجل ارتفاعاً سريعاً ومتوالياً، وبنسبة تجاوزت الـ 90% قبل نهاية النصف الأول من العام الحالي، حيث بلغ سعر الجوال “زنة 50 كيلو” 1300 جنيه، قبيل شهر دخول شهر رمضان الاخير،ليصل سعر الكيلو إلى 30 جنيه، إلا أنه تراجع مرة أخرى إلى 850 جنيه خلال الأسابيع الماضية، نتيجة لشح السيولة، وارتفاع الأسعار الذي أدى إلى انحسار الطلب بصورة كبيرة.
الخبز.. عودة الصفوف
قطعاً لا يمكن الحديث عن “معاش الناس” دون المرور على ثلاثية “القمح والدقيق والخبز” وعطفاً على أزمة الخبز التي شهدتها البلاد مؤخراً، يمكن القول إن عودة الصفوف مثلت أوضح “تجليات” الأزمات المتكررة التي ظلت تشهدها السلعة خلال السنوات الماضية، لكن ما يلزم توضيحه هنا، هو أن سنوات الحوار شهدت زيادات متتالية في أسعار الخبز خلف لافتة “رفع الدعم” ففي العام 2014 كانت أسعار الخبز بواقع 4 قطع بجنيه، وفي 2015 ارتفع السعر لتصبح ثلاث رغيفات بجنيه، ثم إلى رغيفتين بجنيه في 2017، واستقر الأمر في العام الحالي عند “1 جنيه = رغيفة” بعد إجازة موازنة 2018 التي تضمنت رفع الدعم “بصورة نهائية” عن القمح، ومع ذلك فالتخوفات ما زالت قائمة من أن تشهد الأسعار زيادات جديدة في الفترة القادمة.
المعالجات.. قضية معقدة
يقطع المحلل الاقتصادي، عضو هيئة المستشارين بمجلس الوزراء، د. هيثم محمد فتحي، بأن معاش الناس قضية معقدة ومتشابكة ومتداخلة، وأنها لا تعالج بزيادة الأجور التي حذر من أنها ستفاقم معدلات التضخم، وبالتالي تراجع القوة الشرائية، مبيناً أن العلاج يكمن في إصلاح السياسات الانتاجية والنقدية والمالية، والابتعاد عن الحلول الجزئية، ونادى بوضع خطة اقتصادية تستهدف توسيع مظلة الضمان الاجتماعي والتأمين الصحى لتشمل كل المواطنين، مع ترشيد الإنفاق والصرف الحكومي، ووقف استيراد السلع الكمالية، وتشجيع وتحفيز الصناعات المحلية، مطالبا الحكومة بتذليل المعوقات التى تعترض السلع في طريقها للأسواق الخارجية، ودعا هيثم في حديثه لـ “الأخبار” للاسراع بانزال وثيقة الحوار الوطنى لأرض الواقع والحاق الممانعين بركب الحوار، لإزالة المهددات الأمنية التي قال إنها تستنزف 80 % من الموارد.
رفع الحصار.. فرصة مهدرة
الاقتصاديون يعيبون على حكومة الوفاق الوطني، عدم تمكنها من استثمار الفرصة التي لم تسنح لكل الحكومات السابقة، فبعد 20 عاماً من الحصار، قررت الإدارة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، في يوليو 2017 الذي صادف مرور شهرين على إعلان “حكومة الحوار” وبالرغم من أن الحكومة ظلت تعلق كل إخفاقاتها السابقة على الحصار الأمريكي، إلا أن الوضع الاقتصادي والمعيشي لم يشهد إلا المزيد من السوء بعد، رغماً عن أن الإدارة الأمريكية سمحت بإستئناف التعامل المصرفي مع السودان مؤخراً، وهنا يؤكد المختصون أن الحكومة لم تضع أي خطة للاستفادة من الفرصة التي انتظرتها كثيراً، وعلى رأس تلك الخطط إصلاح مناخ الاستثمار.
توصيات الحوار.. محلك سر
رئيس لجنة معاش الناس، بالحوار الوطني، سمير أحمد قاسم، قال إن اللجن كتبت توصياتها في 260 صفحة بعد جولات طافت كل ولايات السودان، وعقدت لقاءات مباشرة مع المواطنين كانت خلاصتها المباشرة أن مستوى الأجور الحالية لا يكفى حتى “آخر الشهر” وأن هناك ضائقة معيشية تتطلب التعاون، وأقرَ في حديث لـ “الأخبار” بأن الوضع الراهن يتطلب زيادة الانتاج والانتاجية، وفي ذات الوقت أزالة المعوقات التى تعترض الاستثمار، وأولها التقاطعات بين المركز والولايات بشأن الأراضي، يبجانب قانون العمل الذي اعتبر أن أصبح “عائق” أمام المستثمرين، مؤكداً على ضرورة إزالة جميع التقاطعات والمعوقات في إطار برنامج إصلاح الدولة، من أجل تحقيق الاستقرار للمستثمر الأجنبي والوطني.
الواقع.. هروب الأموال
وبطبيعة الحال، توجد العديد والمترتبات على الوضع الذي أفرزته الضائقة المعيشية، ويرى سمير أحمد قاسم أن المستجدات التي طرأت على الوضع الاقتصادي تتمثل في هروب رأس المال الوطني إلى إثيوبيا، لافتاً إلى أن استثمارات السودانيين المباشرة هناك وصلت إلى أكثر من 2,5 مليار دولار، ونوه إلى أن الكارثة الأخرى “بحسب تعبيره” تتمثل في توجه اايستثمارات السودانية إلى يوغندا، مبيناً أن عدد كبير من رجال الأعمال السودانين بدأوا اتصالات بالسفير اليوغندي بالسودان، لتسهيل أعمالهم وبحث إمكانية الاستثمار في يوغندا، محذرا من خطورة الأمر على الاقتصاد الوطني في ظل التراجع المريع للعملة الوطنية مقابل العملات الحرة الأخرى، وتدني سعر الصرف، مقرا بتآكل رؤوس الاموال، في وقتٍ أصبح فيه المستثمر الأجنبي عازفاً عن الاستثمار بسبب تدني سعر الصرف، باعتبار أن سعر الصرف الرسمي 28 جنيه، والسعر بالسوق الموازي 45 جنيه، وهو ما يتسبب بخسائر فادحة تصل إلى 40%، ورأى سمير أن الحل يمثل في تعزيز الصادرات غير البترولية، وقال إنه في حال أصبحت الصادرات أعلى من الواردات وقتها يمكن التحكم بسعر الصرف بصورة أكبر، ويمكن أن يتراجع حتى 15 جنيه للدولار.