ثالثة الأثافي
د. عبد الماجد عبد القادر
أولاً، لابد أن نذكّر الناس جميعاً بأن حياتهم اليومية بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ما هي إلا تدابير واتخاذ حيل ليتفادى الإنسان والحيوان الأضرار القادمة إليه ويستجلب الفوائد التي تلزمه.. وعندما تصحو من نومك في الصباح وتدخل الحمام لتكون نظيفاً، فهذا يعني أنك تتخذ حيلة استعمال المياه لإزالة القاذورات والميكروبات من جسمك، وعندما تلبس الملابس، فأنت تفعل ذلك «للتحايل» على ضربات الشمس أو لفحات البرد. وعندما تختار الملابس الأنيقة ذات الألوان فأنت تتخذ الحيلة لكي تبدو أنيقاً ومقبولاً حتى يأخذ زملاؤك ومحبوك ورؤساك انطباعاً جيداً عنك .. وعندما يمتطي الشخص سيارة محترمة، فهو في الحقيقة يتخذ التدابير والحيل التي تجعله في نظر الناس يبدو مهماً.. وعندما يظهر المسؤولون في أجهزة الإعلام المقروءة أو المرئية بعد أن يكونوا قد وضعوا كل المساحيق و«الماكياج».. فهم في الحقيقة يحتالون لإخفاء التجاعيد والشروخ والأخاديد.. وعندما يقوم رجل الأعمال بالتبرع لمنشأة جديدة أو مسجد، فقد يحتال بذلك على أن يبدو وكأنه رجل البر والإحسان.. وعندما يقيم مأدبة العشاء الفاخرة ويدعو لها أهل السلطة والجاه، فهو في واقع الأمر (يحتال) على الظروف التي تجعله قريباً من أولي الأمر..
قصدنا من ذلك أن نقول إن هناك فرقاً كبيراً ما بين الحيلة والاحتيال.. ولما كانت الحيلة جائزة شرعاً ومطلوبة عُرفاً، فإن القانون الجنائي السوداني لم يقل فيها شيئاً، وظل قضاؤنا الواقف يحاول بشتى الطرق أن يبتكر ويستحدث الحيل القانونية للإفلات من المآزق في حق موكليهم.. ولكن الاحتيال وهو ما يقع في خانة الغِش والتدليس لتحقيق مصلحة غير مشروعة، صنفه القانون تحت المادة «178» من القانون الجنائي.. ومع تفاقم أحداث التعثر المصرفي وانهيار بعض البنوك ومعظم رجال الأعمال.. ومع الشطط والتعسف الذي تحول إلى ظاهرة مصرفية بحبس العملاء ومطاردتهم، فقد اضطر الكثيرون لاتخاذ الحيل القانونية واستعمالها كمخرج من هذه المآزق.. يبدو أن البنوك قد ظنت خطأ أنه يمكنها أن تستعمل مادة الصكوك المرتدة لتحبس عملاءها، وفي ذات الوقت تمنعهم من استعمال مواد نفس القانون السوداني الذي يجيز الشركات وإشهار الإفلاس، ثم تمنعهم من استعمال الحيل القانونية بمساعدة المحامين وأهل القانون.. فإن بعض الإخوة في بعض البنوك قد خلطوا ما بين الحيلة والاحتيال.. وحتى لو كانت الحيلة في عرفهم احتيالاً فإنه يتم معالجتها وفق منطوق المادة «178» من القانون الجنائي وأمام القضاء العادل، وليست هناك اي سلطة لأي جهة كانت، بحيث تقول إنها سوف تنفذ عقوبة الإعدام المالي والضغوط الأمنية والاجتماعية إذا ما كانت المخالفة واضحة وصريحة..
وكما هو معلوم أن سيدنا أيوب وفي خضم معاناته من المرض والآلام حلف بالله أن يضرب زوجته مائة جلدة، عندما يشفيه الله من سقمه، فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد له «الحيلة» و«المخرج» من كل هذا الحرج، بأن أنزل عليه وحياً يقول له أن يأخذ مائة سوط من جريد النخل ويلصقها مع بعضها ثم يضرب بها زوجته، وبهذا يكون قد أوفى بالنذر ولم يحنث.. وبالطبع فإن هذه «الحيلة» قد قام سيدنا أيوب بتنفيذها حرفياً واستطاع «المخارجة» من المأزق الذي وضع نفسه فيه..
ومن المؤكد أنك لن تستطيع أن تضرب شخصاً بمائة سوط مربوطة على بعضها إلا إذا لمسته بها فقط أو وضعتها على ظهره.. هذه يا أهلنا في البنوك هي الحيلة.. ولعل بعض البنوك قد مارس الحيلة أو التحايل وربما الاحتيال في عمليات الاستثمار والمرابحة التي قيل إنها عبارة عن بيع بضاعة ولا توجد بضاعة، والبعض ينفذ عمليات صادر «عديل كده» لسلع غير متوفرة بالسودان، والبعض يعلم أن المدين قد سدد قيمة العملية السابقة بعملية جديدة بالتواطؤ على «فبركتها» مع سبق الإصرار والترصد.. فهل هذا تحايل أم احتيال.
ونخلص من هنا إلى أن الحيلة شيء غير الاحتيال، وأن رجال الأعمال من حقهم ومن واجبهم أن يتخذوا كل التدابير والتحوطات التي تمكنهم من ممارسة كل الحيل القانونية وغير القانونية للإفلات من تعسف البنوك.. ونهيب بكل المحامين ورجال القانون أن يقدموا كل المساعدات والتسهيلات «لمخارجة» رجال الأعمال من زنقة المصارف، ومن إجحاف الذين يدافعون بدموع التماسيح عن أموال المودعين المتوهمة.. علماً بأن معظم المودعين ربما كانوا في الحبس والسجون أو تحت «الخندقة» أو متهمين هاربين،.. أفلا يحق لهم استعمال «الحيلة» فإن لم يجدوها فأمامهم الاحتيال ما وجودوا إليه سبيلاً.
شاهد أيضاً
نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا
أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …