★ لــــنا كلمـــة ★
بقلم الاستاذ / سعد محمد أحمد
عام 1845 وصف الظاهرة التى أدت إلى وفاة المقيمين من الطبقة العاملة فى مانشستر قبل الاوان بسبب ظروف معيشتهم وعملهم «القتل الاجتماعى» وفيات مبكرة بسبب الظروف المؤسفة لتوضيح مصدر هذه الوفيات هذا الاقتباس عن الطبقة العاملة فى انجلترا عام 1845 يستدعى الانتباه اليه بشكل دقيق لأن راهننا يعبر عن تلك الايام عندما يقوم شخص ما بالحاق اصابات جسدية بشخص آخر وتؤدى إلى وفاته فاننا ندعو ذلك بالقتل الخطأ وعندما يعلم المعتدى مسبقا بأن الاصابة ستكون قاتلة فاننا ندعو ذلك بالقتل العمد لكن عندما يضع المجتمع الالاف من العمال فى ظروف تجعلهم حتما يموتون مبكراً بصورة غير طبيعية فهو موت مماثل للموت الناتج عن العنف أو الموت بالسيف أو بالرصاصة وعندما يحرم المجتمع الالاف من ضرورات الحياة ويضعهم تحت ظروف لا يستطيعون العيش فيها ويجعلهم من خلال ذراع القانون القوية على البقاء فى هذه الظروف حتي الموت وهو امر حتمى يعنى انه ادرك تماما ان اولئك الالاف من الضحايا سيهلكون ومع ذلك يسمح ببقاء هذه الشروط لذلك ما يفعله المجتم هو القتل تماما كما قد يفعل اي فرد وحده هذه جريمة قتل مقنعة وخبيثة جريمة لا يمكن لاحد أن يدافع عن نفسه منها أو ان يواجهها لأن احداً لا يرى القاتل ولأن موت الضحية يبدو طبيعيا ولأن الجريمة تأتى نتيجة التغافل لا الفعل لكن على الرغم من ذلك تبقى جريمة قتل والتساؤل المشروع هل يتلاءم هذا التحليل مع ما يحصل فى واقع السودان اليوم وما تعانيه كثير من الناس من بؤس الحياة المعيشية والصحية والتعليمية دون اية حماية اجتماعية.
كيف يموت هؤلاء؟ ان الاشخاص الادنى دخلا هم اكثر عرضة للموت بالمقارنة مع نظرائهم الاغنياء بنسبة 67٪ للرجال و53٪ للنساء حسب دراسات من منظمات دولية وايضا اكثر عرضة للموت بالسرطان بنسبة 46٪ للرجال و30٪ للنساء واكثر عرضة للاصابة بالسكرى واكثر عرضة للاصابة بامراض الجهاز التنفسي كما هم معرضون لاصابات العل بنسبة اكبر من الأعلى دخلا وتوضح هذه الاحصائيات والدراسات ان الاختلافات فى النتائج الصحية ترجع فى الدرجة الأولى إلى الظروف المعيشية المادية والضغوط النفسية الاجتماعية المرتبطة بها والتى غالبا لا تكون مماثلة للاغنياء. فى الواقع يؤثر الدخل على الصحة نظراً إلى قدرته على توفير الوصول إلى الموارد المادية مثل الغذاء الجيد والمأوي.
اي حاكم عاقل سيفعل كل ما يمكن لتحسين الوضع المالى لهؤلاء الافراد المعرضين لخطر الامراض والموت ولكن بدلا من ذلك يستمع إلى خبراء زيادة الحد الأدنى للاجور ويحد من زيادة المساعدات الاجتماعية ووضع قوانين مجحفة فى شروط العمل ويفرض تخفيضات هائلة على الخدمات الحيوية والاساسية لهذه الفئة الذين لا يتمتعون بالامتيازات نفسها المتاحة للاثرياء فى السودان تفككت القدرات العمالية المنظمة كثيراً والتى كانت تدافع عن حقوق العمال حيث بدأ الهجوم المضاد فى بداية التسعينات للانقضاض على مكاسب العمال المحققة حيث عانى كثير من النقابين من القهر والقمع والموت فى سجون النظام والشهيد د. على فضل خير مثال.
بعد انتفاضة ابريل فى فترة الديمقراطية الذى حقق فيها العمال كثيراً من حقوقهم المسلوبة ابان مايو واسترداد كامل نشاطهم وحقوقهم المادية والادبية والتنظيمية بعد انقلاب الانقاذ هناك أدلة وشواهد على ان الهجوم على النقابات واطر المفاوضة الجماعية كان له الاثر الكبير فى خسارة العمال قسما من اجورهم لصالح رأس المال التمكين خوفا من العمال كيف لا وهم وقود حراكات وانتفاضات اكتوبر وابريل فى اسقاط الانظمة العسكرية الشمولية فالنظام المايوى عمل على تكسير كل معاقل ومكتسبات العمال وتدمير البنية التحتية للاقتصاد السودانى مقابل بقاء النظام على سدة الحكم وضد اكبر تجمع للعمال ونعنى به قطاع السكك الحديدية الذى لم يقم له قائمة حتى تاريخنا الراهن والتى ادى إلى تفكيك اواصر التواصل بين اطراف الوطن بل ادى إلى ارتفاع تكلفة نقل السلع من السودان وإلى السودان وداخل القطر وهذا ادى بدوره إلى زيادة تكلفة المنتجات المحلية وحرم الكثير من تسويق منتجاتهم لضعف قدرتهم التنافسية بسبب زيادة تكلفة الانتاج المحلى امام المنتجات المستوردة بل قضى على المشاريع الانتاجية وذهب مايو وبقى العمال ومازال السكك الحديدية مدمرة. لتقضي نظام الانقاذ على ما تبقى من التنظيمات النقابية بخلق اجسام وهمية بديلة للنقابات المهنية فى اطار تنظيم العمل النقابى داخل المنظومة الايدلوجية الحاكمة حتى يتيح له التحكم فيه والحد من الحركة العمالية وحراكها بل خصخصت المؤسسات والشركات العامة لصالح الراسمالية وتم تشريد العمال وتدمير المشاريع المنتجة وتحريم التدريب الخارجى والداخلى الخصخصة التى امتدت إلى الحقل الصحى والعلمى والتعليم والغاء النقل الميكانيكي والمخازن والمهمات والخطوط البحرية والنقل النهرى وحال سودانير لايحتاج لحديث لتصبح جرحا غائراً في جسد الوطن والحركة العمالية حيث يعانى العمال فى السودان من القمع والعنف والجوع اكثر من اترابهم فى الدول الديمقراطية وعليه يصبح السودان ليس مكانا صالحا للعمال وهذا ايضا مالخصه تقرير المؤشر العالمى للحقوق والحريات النقابية لعام 2018م الصادر اخيراً عن الاتحاد الدولى للنقابات وتميز السودان بانتهاك حقوق العمال وتعلق هذا الانتهاك بالاعتقال الذى تم للنقابيين الناشطين واحتجازهم لفترات مثل نقابة الأطباء والعاملين فى الحقل الطبى مع ظهور المطالبة باسترداد الشرعية للنقابات لتأسيس نقابات مستقلة عن النخب الحاكمة كما ظهرت نشوء حركات اعتراضية لدى فئات مهمة من العمال الساخطين من ظروف عملهم القاسية والمجحفة فكثير من العاملين يجرى استبعادهم من اي حماية توفرها قوانين العمل. مثلا نجد اتحاد الصحفيين وهو الجهة المنوط لها حماية الصحافة والصحفيين امام ما يتعرضون لها من انتهاكات وظروف عمل عاجز عن تقديم اي حماية لحقوق منتسبية المعنوية والادبية والمادية وغيرها ليصبح جسم نقابي بلا معنى.
مع السمة الابرز الاتجاه الذى تنحو اليه حال الحقوق العمالية فى العالم هو التدخل المتزايد لصندوق النقد الدولى فى تعديل قوانين العمل واتفاقات العمل الجماعى.
في بعض البلدان فرض صندوق النقد اصلاحات على تشريعات العمل لادخال المزيد من المرونة فى الاستخدام والاجور وتعنى «بالمرونة» بكل بساطة الغاء القيود المفروضة على صرف العمال من دون تعويضات وتشجيع عقود العمل المؤقتة أو العمل الجزئي وما نخشاه ان السودان يسير فى الطريق نفسها ففى كثير من الشركات والمؤسسات كثرت عقود العمل المؤقتة ثم السماح بتشغيل العمال بساعات اطول باجور زهيدة وتم ايضا ادخال تعديلات على شروط تأسيس النقابات ما يحرم كثير من العمال هذا الحق لاستحالة توفير الشروط الجديدة المفروضة عليهم كما تفرض مجموعة «ترويكا الدائنين» من الغاء العديد من عقود العمل الجماعية ما يجعل وضع العمال سيئ فى كل العالم وهذا ما يذهب اليه تقرير الاتحاد الدولى للنقابات.
فى معظم التقارير والدراسات يرد ان «رأس المال البشرى» هو احد ميزات المجتمع السودانى ومصدر الغناه وطوق نجاته إلا ان مؤشراً جديداً اطلقه البنك الدولى يكشف جانبا من الحقيقة المرة فالطفل الذى يولد اليوم فى السودان لن يكون منتجا عندما يكبر إلا بنسبة 38٪ من قدرته الفعلية على الانتاج لانه ببساطة لن يحظي بالتعليم المناسب والصحة الجيدة بالقدر الكافى لاستغلال طاقته الانتاجية الكاملة ما يحرم الاقتصاد من 62٪ من طاقته الكامنة.
هناك مسعى دائم لتقدير قيمة الانسان كميا أي تسعيره ويظن بعض الاقتصاديين ان باستطاعتهم التوصل إلى ذلك عبر استخدام نماذج رياضية وهنا تكمن الاشكالية الاساسية التى تعترى مفهوم «رأس المال البشرى» إذ كيف يمكن اختزال قيمة الانسان إلى مجرد سعر يعبر عن قيمته فى السوق؟ مثل هذا التسعير لن يكون متاحا الا فى ظل «العبودية» حيث يجرى بيع وشراء العبيد فى السوق كأي سلعة ويكون ملكا لصاحب «رأس مال بشرى» يجنى عوائد العمل وحده ولا يمد العمال إلا بسبل البقاء على قيد الحياة بما يكفى تحقيق فائض قيمة أو ربح لكن بمعزل عن هذه الاشكالية المهمة ومع التحفظ على مبدأ تكميم قيمة الانسان وتبخيسها فى السوق يقدم البنك الدولى اداة قياس لتقدير قيمة «رأس المال البشرى» انطلاقا من القيمة التى سينتجها فى المستقبل كل طفل يولد اليوم تبعا للظروف الصحية والتعليمية السائدة فى البلد الذى يعيش فيه ويحاول المؤشر قياس المسافة التى تفصل كل بلد عن الوصول إلى حدود التعليم الكامل والصحة الكاملة لطفل عبر تحليل البيانات الاحصائية المتوافرة حول معدلات البقاء على قيد الحياة وحول التعليم بالاضافة إلى البيانات المتعلقة بالصحة يقيس مؤشر «رأس المال البشرى» انتاجية طفل يولد اليوم بالمقارنة مع مستوى انتاجيته فيما لو كان يتمتع بكامل الصحة واتم تعليما عالى الجودة بالاستناد إلى هذا المؤشر فان الطفل الذى يولد فى السودان اليوم يهدر نحو 62٪ من طاقته الانتاجية المتاحة التى يمكن الوصول اليها فى حال حصل كل طفل علي تعليم جيد ونما فى صحة جيدة يشمل «مؤشر رأس المال البشرى» 157 بلداً ويحتل السودان المرتبة 139 اي يقع فى الربع الادنى بين دول العالم وتبلغ قيمة مؤشره 38.، نقطة فقط وفى ذيل الدول العربية قبل دولة اليمن المدرجة على هذا المؤشر هذا يشير إلى ان قيمة مؤشر السودان تراجعت ما يعكس تعمق ازمة النموذج الاقتصادى فى السودان. تشكل هذه الاداة ادانه جديدة لكل السياسات التى حكمت العالم خلال العقود الاخيرة واعادته إلى ما يشبه الظروف التى عاشها فى القرن التاسع عشر. وعلى الرغم بأن البنك الدولى لا يخبرنا عن حال اباء وامهات هؤلاء الاطفال ولا يخبرنا عن سبب هذه التفاوتات الكبيرة إلا انه يخبرنا بصراحة تامة أن سياسات التحرير الاقتصادى والخصخصة والتقشق والضرائب المنخفضة على الدخل وتدمير دولة الرعاية الاجتماعية وتخفيض الاستثمار فى التعليم الجيد والتغطية الصحية الشاملة كلها عوامل حرمت الراسمالية نفسها وهي محور اهتمام البنك الدولى من استغلال كامل قوة العمل المتاحة فالناس فى ظل التطور الراسمالى بات متاحا لهم ان يعيشوا عمراً اطول وينتجوا كمية اكبر فى الاقتصاد وبالتالى قدراً أعلى من الثروة والرفاهية ولكن بشرط ان يتمكنوا من الوصول إلى فرص التعليم الجيد الذى يؤهلهم لبيع قوة عملهم فى السوق فى وظائف جديدة مرتفعة الانتاجية وإذا تمكنوا من العيش فى صحة جيدة تسمح لهم بالمحافظة على انتاجيتهم المرتفعة لاطول مدة زمنية ممكنة وهما شرطان غير ممكنين فى ظل «ديكتاتورية السوق الحرة» التى تلقى على الفرد وحده مسؤولية توفيرهما وتعفى الدولة من هذه المسؤولية وتحرم العمال من المطالبة بها.
نقلا عن ايلاف
شاهد أيضاً
نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا
أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …