الجمعة , نوفمبر 22 2024
أخبار عاجلة

اعتصام القيادة و ما تلاه: فضاءآت للتأمل في الذاكرة و المعني و الأخلاق

بكري الجاك

هل هنالك معني لقول مثل ” البعيد عن العين بعيد عن القلب” في مستوي الممارسة السياسية و في تفسير وقع الفعل الاجتماعي و درجة تاثيره علي الناس و مدي تأثر الناس به؟ ثم ما هي المفارقات الاخلاقية حينما يترتب علي مثل هذا القول تراتبية في التمتع بالحقوق الطبيعية مثل الحق الحياة؟ ربما للقول دلالات عملية عميقة في تفسير ردود افعال البشر وفق علم النفس الاجتماعي و هو الفضاء المعرفي الذي يعني بفهم و تفسير كل الظواهر السياسية و الاجتماعية التي تتجاوز انطباعات الافراد.

لا ادري اصول هذا القول لكني اتفهم معناه و مقصده، فدلالاته الحسية اقوي تأثيرا علي النفس البشرية من معناه اللغوي فعادة ما يستخدم هذا القول للتأكيد علي أن الاشياء القريبة من واقعنا الحسي اليومي لها تاثير مادي كبير في حياتنا من الاشياء التي قد يكون لها معني في قلوبنا لكنها بعيدة واقل قدرة في التأثير علي حياتنا اليومية. ما حدث في الثالث من يونيو 2019 أمر جلل وسيظل جرح دائم في الذاكرة الجمعية لجل السودانيين لكنه لم يكن الجرح الاول (أتمني أن يكون الاخير) في تاريخ الدولة السودانية البعيد و القريب، اذا كانت الدولة السودانية الموروثة من الاستعمار قد بدأت في 1956 ربما ليس هنالك عقد من هذه العقود الست ليس به مذبحة تماثل فض الاعتصام في عمقها و آلامها مع اختلاف السياقات الزمانية و المكانية، و يمكن أن نبدأ باحداث توريد في 1955 ثم عنبر جودة في 1956 ثم اندلاع الحرب الاهلية في الستينات و بروز خطاب “احرقو الجنوب” ثم أتت السبعينات بمذابح دموية ما بين الجزيرة ابا في 1970 و بيت الضيافة 1971 و مواجهات قوات الجبهة الوطنية المتحدة في شوراع الخرطوم 1976 اما الثمانينات فقد شهدت اندلاع المواجهات المسلحة مرة أخري في 1983 ثم مذبحة الضعين في مارس 1987، رابعة الاثافي أتت في التسعينات التي بدأت بمذبحة 28 رمضان كافتتاحية لمذابح طالت كل ربوع الوطن وتوجت بالهوس الديني و الحرب المقدسة طوال باقي عقد التسيعنيات ثم في عقد الالفينات تحديدا في عام 2003 انضمت دارفور لتفتح جرحا مازال ينزف، و ما بين الجنوب و دارفور و جبال النوبة و النيل الازرق هنالك محطات للموت في بورتسودان و المناصير و غرق طلاب الخدمة الالزامية و احداث مسجد الجرافة ومذابح اخري لا نعلم مداها حتي هذا اليوم. جوهر قولي في هذا المقال أن جلنا من حيث الألم و القرب من الذاكرة أعلي شأن فض اعتصام القيادة فقط لأنه قريب من العين حتي للذين لم يكونوا هناك ذاك الصباح، ليس هنالك اسوأ من أن نخوص في ترتيب الآلام لكن وقائع الأمور تقول أن الموت في الخرطوم كان و سيكون أشد ألما من الموت في كبكبية و كاودا و مينزا و ملكال فالخرطوم قريبة من العين قديما و هي الآن قريبة من عين الكاميرا و الذاكرة و الوجدان الجمعي و هي ايضا قبلة الفاعلين السياسيين أصحاب المنصات و الروافع الاجتماعية التي لاتتوفر للبسطاء في الاطراف و ربما هذا ما يفسر أمد الألم و عمق الجرح مقارنة بمذابح كثيرة طالت كل ربوع الوطن. ما حدث في فض اعتصام القيادة طال كل الوطن في كل جوانبه من حيث الضحايا والمفقودين و الاحساس العميق بالخيانة والطعن من الخلف ممن ادعي انه حليف الثورة و داعم للتغيير و سيظل هذا الجرح ينزف في الذاكرة السودانية لعقود قادمات، لا اعتقد أن هذا الامر ينطبق علي مذبحة الضعين و لا علي احداث جوبا 1992 و لا علي مذبحة كاودا أو كل مذابح دارفور، فهذه المناطق بعيدة عن العين بعيدة عن القلب في الوجدان السوداني و هذا أمر يستدعي البحث و الحفر و محاولة الفهم.

في بلد شاسع مثل امريكا المقابل المادي للنظام الفيدرالي لهذا القول هو ان كل ما يتعلق بالسياسة هو أمر محلي all politics are local و مغزي فكرة هذا المفهوم أنه في ظل نظام فيدرالي ممتد جغرافيا ما بين مدار السرطان في اقصي الشمال و علي مقربة من خط الاستواء جنوبا و متنوع ثقافيا من حيث اللغات و الخلفيات التاريخية، المبدأ أنه أي فكرة تتعلق بالسياسات الفيدرالية خصوصا في الانتخابات الرئاسية و الأمور المتعلقة بالسياسة الخارجية و التجارة و الدفاع لابد لاي سياسي طامح في أن يربط هذه القضايا القومية بالقضايا المحلية اذا ما اراد أن يكتب له فرصة في المنافسة ناهيك عن فكر القبول أو الاستماع. من ناحية أخري يمكن تبسيط الموضوع لما يسمي بال framing اي زاوية الطرح من خلال التركيز علي سياقات محددة أو الكيفية التي يمكن بها طرح القضايا لتجد رواج و اهتمام، ففكرة ربط القضايا القومية بالقضايا المحلية يساعد و يمكن الناس من فهم اهميتها و هو ما يسهل للناس فهم الكثير من الامور المعقدة اذا ما قورنت و ربطت بواقعهم المحلي الذي يعرفون، في مجال التعليم العالي بالنسبة للمهتمين بالتدريس يسمي هذا المفهوم بال relatability اي ربط المواد قيد الدراسة باهتمامات الطلاب لتسهيل الفهم و لشحذ الاهتمام. السؤال الأهم لما لم يهتم جموع السودانيين بهذه المذابح لوقت طويل حتي وصلت هذه المذابح الي بيوتهم؟ اتفهم أن الارادة الشعبية ظلت مسلوبة لوقت طويل و ان المخيال الاجتماعي يحزن لما يحدث في غزة اكثر مما يحدث في دارفور فغزة متاحة في الاعلام الرسمي و الشعبي خلاف لبقية انحاء الوطن وهي قريبة من العين رغم بعدها الجغرافي. و عليه من الطبيعي أن نحمل مشاعر عميقة للاشياء القريبة منا مكانيا و زمانيا و أن تثير ردود فعل عاطفية عميقة في دواخلنا وأن تخلد في ذاكرتنا الي الابد، هذا ليس صحيحا عن احداث اشد فظاعة لكنها بعيدة عنا زمانيا او مكانيا او لاننا لا نشعر بالارتباط بها حتي و ان كانت قريبة منا زمانا و مكانا وهو أمر يستحق البحث و محاولة التفسير، فكيف بكي السودانيون لغزة مرات و مرات و لم تدمع اعينهم للمجاذر في كل ربوع وطنهم؟ هذا التناقض جوهر فكرة الاحساس بالارتباط بشيء ما سواءا بسبب المتخيل اجتماعيا من دين و هوية مشتركة او بسبب حضور هذه القضايا في قنوات تشكيل الرأي والوجدان بشكل مستمر.

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

نهر النيل تعلن عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا

أعلنت وزارة الصحة بولاية نهر النيل عن تسجيل حالات اصابة جديدة بوباء الكوليرا وذلك في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا