الخميس , نوفمبر 21 2024
Breaking News
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
الضحك

تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان 3

يعرف علماء الفيزياء الزمن بأنه بُعْدٌ فيزيائي رابعٌ للمكان، وأحد مكونات المسرح الكوني الذي تجري فيه الأحداث. لكن بالنسبة للإنسان العادي فإن الزمن لا يعدو كونه وسيلة لترتيب الأحداث والإحساس بتواليها، وقد ابتدع الإنسان عدة أجهزة لقياس المسافة الزمنية الفاصلة بين الأحداث (الوقت)، بدءاً من الساعات الشمسية والساعات الرملية والساعات المائية وانتهاء بالساعات الذّرّيّة وربما أنواع أخرى من الساعات لا سبيل لزول غابات ساكت مثلى معرفتها.
يعتمد الزمن وقياسه في بعض مفاهيمه على فكرة الأحداث المتزامنة، كأن تقول مثلاً تحين صلاة العصر عندما يصبح ظل كل شيء مثله، أو أن إدارة غابات السودان قد نشأت ووضعت أسس أعمالها من حيث التشريع وتحديد المهام والمسؤوليات الإدارية ومناشط حصر موارد الغابات وحجزها وخطط عملها الفني والإنتاج بواسطة سلطات الاستعمار بعد دخوله السودان. عليه فإن من الممكن استخدام معيار الأحداث المتزامنة لبيان تطور الغابات بالتزامن مع بعض التطورات السياسية البارزة في السودان.
في عهد الحكم الذاتي مثلاً الذي سبق الاستقلال، حينما كان الوزير (السوداني) يعمل تحت إشراف المدير (الإنجليزي) يحفظ التاريخ للأميرال عبدالله بك خليل أول وزير زراعة سوداني حرصه على إرسال المبعوثين لنيل التعليم العالي بالخارج لضمان تأمين إدارة مؤهلة علمياً للغابات عندما يحين الاستقلال، إذ كان معظم العاملين بالغابات وقتذاك من متقاعدي الجيش والشرطة.
في العهد الديمقراطي الأول يحفظ التاريخ لثاني وزراء الزراعة السودانيين في العهد الوطني حسن عوض الله ترقيته لقسم الغابات الذي كان يتبع لمصلحة الزراعة والغابات ليصبح مصلحة مستقلة من مصلحة الزراعة كعهدها الأول. ويحمد التاريخ للزعيم الأزهري أول رئيس وزراء للسودان منحه قشلاق توفيق الذي كان ثكنةً للجيش المصري قبل الجلاء ليكون مقراً لمصلحة الغابات المستقلة ومقرا من بعدها للهيئة القومية للغابات الحالية.
وقد تحقق خلال السنوات العشر الأولى من الاستقلال أكثر مما تحقق في خلال الخمسة عقود التي سبقتها في عهد الإنجليز من حيث التشجير ومساحة الغابات المحجوزة والاكتفاء الذاتي من الأخشاب الصلبة، وكان ذلك بفضل التخطيط والحنكة الإدارية وحماس الشباب وحافز الاستقلال.
يحمد التاريخ لحكومة الفريق عبود توسعها في البعثات الخارجية في مجال الغابات لكل أنحاء العالم (استراليا والمملكة المتحدة وباكستان) وترفيعها لمدرسة خبراء الغابات التي كانت تستوعب طلاب الأساس إلى كلية للغابات تستوعب طلاب الثانوي. ولإصداره قانون إدارة المديريات لعام 1961م الذي يعتبره أهل الغابات من أفضل التشريعات التي صدرت في قسمة السلطات بين المركز والمديريات. ونتيجة لذلك فقد شهد مرفق الغابات في أواخر الستينات توسعاً وتطوراً نوعياً ملحوظا في مناشطه المركزية المختلفة وخدمة أهدافه القومية. كما شهدت هذه الفترة أيضاً انطلاقة المشاركة الشعبية الواسعة في برامج التشجير من خلال الاحتفال بأعياد الشجرة التي انطلقت في إقليم كردفان والأقاليم المجاورة في العام 1963م.
وبتفجر انتفاضة رجب – أبريل 1985م أعادت حكومة الانتفاضة مسؤولية إدارة الغابات إلى السلطة القومية (المركزية)، بعد أن أدى الارتباك في تطبيق التشريعات المتناقضة والغامضة المتعلقة بالغابات خلال السبعينات والنصف الأول من الثمانينات لانهيار وتردٍ لموارد الغابات وأفرزت آثارا ضارة بالعمل والعاملين. بالإضافة إلى جملة إصلاحات توجت ببروز فكرة إنشاء الهيئة القومية للغابات الحالية، كهيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية.
وتك في عهد حكومة الديمقراطية الثالثة إجازة قانون الهيئة القومية للغابات، ويحمد للإمام الصادق المهدي ورئيس الوزراء وفاءه بوعده لأهل الغابات الذين طالبوه بأن يجعل الغابات وزارة إن مكنه الله من الفوز بالانتخابات ولكنه استعصم بدستور السودان لسنة 1956 الذي حدد عدد الوزارات مسبقاً ووعدهم بأنه سوف يجعل الغابات هيئة مستقلة وليس وزارة إن فاز بالانتخابات، وهو قد فعل رحمه الله وأحسن إليه، وأوفى ما وعد أهل الغابات به.
وحينما جاءت الإنقاذ قانت بتفعيل قانون الهيئة وأكملت بناء أجهزتها، وأصدرت المرسوم الدستوري الرابع عشر الذي أمن على قومية الثروة الغابية، وتوسعت في مساحات الغابات المحجوزة من 2.9 مليون فدان إلى حوالي 28 مليون فدان (بعد خصم الغابات المحجوزة التي ذهبت مع انفصال الجنوب)، ويحمد للرئيس السابق عمر البشير إصداره قرارا جمهوريا بإكمال حجز 5ر9 مليون فدان من هذه المساحات دفعة واحدة أُعلن عن حجزها بالرقم 9 لسنة 1999م في الجريدة الرسمية لجمهورية السودان. كما نشطت برامج التشجير بعد جعل مناسبة عيد الشجرة مناسبة قومية يحتفل بها في كل ولايات السودان، وتم تطويرها بإعلان رئاسة الجمهورية عن درع بمسمى (درع الجمهورية للغابات) تتنافس عليه الولايات سنوياً وفق معايير محددة تتمثل في توفر الدعم والسند تجاه الغابات، مما ترتب عنه أن قفزت معدلات التشجير الشعبي لحوالي 40% من برامج التشجير (الرسمي والشعبي) الكلية بالبلاد. ولأجل وضع سياسات غابية على أسس علمية، وتحديد ما يمكن حصاده من الغابات دون الإضرار بأصل مواردها، تم إجراء عمليتي مسح غابي على المستوى القومي، الأولى لتحديد استهلاك واحتياجات البلاد من منتجات الغابات، والثانية لحصر المخزون الخشبي لغابات البلاد. وقد كشفت عمليتا المسح هاتين أننا نستنزف مواردنا الغابية بمعدل يفوق معدل تجددها الطبيعي والاصطناعي بحوالي مرة ونصف.
ومع بدايات عهد الثورة كشفت دراسة الجرد القومي لموارد الغابات التي أجريت خلال الفترة 2016 – 2019 أن مساحة الغابات بالبلاد قد بلغت 72 مليون فدان (28 مليون فدان محجوزة و44 مليون فدان غير محجوزة)، فإن كان الهدف الاستراتيجي القومي للحجز هو 90 مليون فدان (20% من مساحة البلاد الكلية البالغة 452 مليون فدان)، فهذا يعني أنه يتعين حجز كل الغابات المتوفرة حالياً (44 مليون فدان) ويزاد عليها 18 مليون فدان أخرى يتم إنشائها إنشاء بالإضافة للمساحات المحجوزة قبلاً (28 مليون فدان).
هكذا إذن بالرغم من التوسع في حجز الغابات وتضاعف عمليات التشجير إلا أن الحجز خلال مسيرة الغابات الممتدة على مدى القرن وربع القرن لم يتجاوز ثلث الهدف الاستراتيجي، وخمس معدل التشجير اللازم لسد فجوة معدل الإزالة السنوية للغابات.
لقد كان يلزم مع هذه المضاعفة العشرية للحجز والعشرينية للتشجير أن تتضاعف أعداد العاملين المحدودين أساساً (3198 عاملاً)، منهم 402 فقط مهني وفني غابات، مما يعني أن أخصائي الغابات الواحد عليه واجب الإشراف على مساحة 560 ألف فدان من الغابات، مع ملاحظة أن الأخصائي الزراعي يشرف على متوسط 3 ألف فدان في الزراعة الآلية، و600 فدان في الزراعة المروية. وهذا الأمر يستدعي استيعاب المزيد من خريجي الغابات العاطلين عن العمل والذين تتزايد أعدادهم عاماً بعد عام بمعدل 200 خريج سنوياً بينما معدل استيعابهم السنوي لا يزيد عن 12 خريج.
لكن هذا الحل البسيط والواضح هو السهل الممتنع بذاته ما دامت الغابات تصنف كهيئة إيراديه فقط وليس خدمية!! إن في حل مثل هذا التناقض، ما بين الإنجازات الضخمة والقصور الواضح عن تحقيق الأهداف الاستراتيجية، يتلخص التحدي الذي يجابه الدولة والهيئة معاً… يتبع.

تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.

عبد العظيم ميرغني

About المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

Check Also

«اليوم العالمي للسكري»: جهود مملكة البحرين للارتقاء بجودة الحياة للمتعايشين مع السكري

كشفت‭ ‬البروفيسور‭ ‬دلال‭ ‬الرميحي‭ ‬استشاري‭ ‬الغدد‭ ‬الصماء‭ ‬والسكري‭ ‬بمستشفى‭ ‬العوالي‭ ‬أستاذ‭ ‬مشارك‭ ‬للطب‭ ‬الباطني‭ ‬في‭ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا