الأحد , أكتوبر 6 2024
أخبار عاجلة
تاريخ موجز لنشأة وتطور إدارة الغابات في السودان
الضحك

بين مناسبتين عالميتين

من التعبيرات الشائعة في وصف الفن بأنواعه وأشكاله المختلفة أنه هدية السماء إلى الأرض، هو الإبداع في التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وحدسنا ورغباتنا بأشكال متعددة تعدد مظاهر الطبيعة التي من حولنا. وأن الفنون في عمومها تتمحور في قول شيء، بإحدى طريقتين، إما بالكلام أو بالصمت:
• الفنون التي هي ليست أدباً هي تلك التي تقال بالصمت.
• الشعر هو من فنون القول، وهو على قول الأديب الإنجليزي صمويل جونسون، يجمع الحقيقة بالمتعة.
• الموسيقى، فن الألحان، هي فن استلهام النغمات من بحر السكون والصمت، من السكتات التي هي بين النغمات.
• الرقص هو من لغات الصمت والإشارة للمعنى باستخدام الحركات وإيماءات الأطراف كمفردات.
• أما الغناء الذي يجمع الشعر باللحن والأداء فليس لي توصيف له أبلغ من تصوير الذواقة المبدع الزاكي عبد الحميد أحمد في “سرديات” عن غناء الراحل الفنان العاقب محمد حسن، فقال أن أغنيات العاقب “تُريحني فأصبح أسيراً لاندياحات صوته التي تحلق بدوائرها في الفضاء تدريجيا قبل ان تعود لتمارس معك لعبة التنويم المغناطيسي والهدهدة.
حكى الزاكي في سردياته عن كيف أن ميشيل، السيدة أسيوية المولد بريطانية الجنسية، التي كانت تشغل وظيفة قيادية في شركة نفط متعددة الجنسيات (٥٣ دولة) كان يعمل فيها بإحدى دول الخليج، كيف أنها حين استمعت لشريط لبعض أغنيات العاقب، أعجبت به واستنسخته.
حكى عن كيف أن صوت العاقب قد أصابها بخدرٍ في الحواس مثلما كان قد أصابه، صوت أشبه بهمسٍ يكون القلبُ أسرع إلى قبوله من الأذن إلى سماعه”. وحكى عن كيف أن ميشيل اعتلت المنصة في اليوم العالمي الذي كانت تنظمه الشركة من وقت لآخر للترفيه عن موظفيها، وتتبارى فيه الجاليات باستعراض جوانب من تراثها الوطني من مأكولات وموسيقى واغاني وغيرها، وأنها علنت من على المنصة عن أن الفقرة الأولى لبرنامج جاليتها البريطانية ستكون الإنصات، ثم كانت المفاجأة حين بدأت اوتار العود تداعب الأخيلة، ثم كان ما كلن:
أنا وحدي فيك يا شط غريب فأعنّي،
فرّقت أيدي الليالي بين أحبابي وبيني،
آهِ من حالي وآمالي ومن جائر حزني،
يقول الزاكي، السوداني الوحيد من بين موظفي الشركة والذي كانت مشاركاته في منافسات اليوم العالمي تقتصر فقط على العضوية الدائمة للجنة التحكيم، أن الرجال الأربعة الذين كانوا معه على طاولة لجنة التحكيم كانوا وهم يستمعون لصوت العاقب كمن “غشيتهم نوبة من الوسن اللطيف. كانوا بين الحضور والغياب. ما هم بنيام ولكنهم حلّقوا في فضاءات هذا الصوت الملائكي الترانيم. أما الجمهور فقد كانوا وقوفاً يصفقون للغة لم يفهموها، ولصوتٍ بعذوبته أجبرهم على احترامه!”.
• يقول عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز كولي أن “الفنان لا يمكن أن يفشل، فمجرد كونه واحداً فهو نجاح”، والعاقب محمد حسن ليس واحداً فحسب وإنما ألف.
المناسبة العالمية الثانية جرت وقائعها في عام 2009 بالأرجنتين، في عاصمتها بيونس آيرس. والمناسبة كانت هي حفل ختام مؤتمر الغابات العالمي الثالث عشر، المناسبة الأكبر من حيث المشاركة بين كافة مناسبات الغابات الدولية، والتي تنظمها منظمة الفاو دورياً كل ستة سنوات بالتبادل بين القارات، وقد أمها في ذلك العام ما يفوق السبعة آلاف مشارك يمثلون 160 دولة ومنظمة.
في تلك المناسبة وقع عليَّ الاختيار (بصفتي مدير غابات السودان)، بجانب مديرة غابات جنوب أفريقيا لتمثيل القارة على الطاولة الرئيسة high table لحفل ختام المؤتمر، والتي كانت لا تبعد سوى بضعة خطوات من خشبة مسرح الاحتفال. وكان مقعدي مجاوراً لمقعد ممثلة حكومة الأرجنتين، وهي سيدة تشغل وظيفة سفيرة في وزارة الخارجية الأرجنتينية.
أول ما بادرتني به تلك السيدة تساؤل عما إذا ما كنت قد لاحظت خلو الأرجنتين من السود. لم تكن الإجابة على هذا التساؤل بمتعذرة عليَّ أو على أي أحد غيري، فمواقع الإنترنت تضج بأمثال هذا السؤال والإجابات عليه: لماذا لا يضم منتخب الأرجنتين لكرة القدم لاعباً أسود البشرة؟ ولماذا لا يوجد زنوج في الأرجنتين؟ وكيف انقرض السود من الأرجنتين؟ وكيف أبادت الأرجنتين ملايين الأفارقة؟
لم تكن الإجابة بإشكالية في حد ذاتها، بقدر ما كان هل من اللائق أن يردد الضيف على مسامع مستضيفه ما لا يطيب له سماعه. ثم خطر لي ربما تريد سعادة السفيرة أن تبرر لي -على سبيل المجاملة- سبب خلو الأرجنتين من السود كأن تقول مثلاً أنه أصلاُ لم يكن هناك أفارقة في الأرجنتين كما يردد البعض من الأرجنتينيون.
في هذا الأثناء انطلقت عروض تلك الرقصة، التانجو، التي اشتهرت بها الأرجنتين. وهي رقصة زوجية يؤديها الراقصان صعوداً وهبوطاً تدريجيًا مع إيقاعات الموسيقى وهما في وضع قريب. وهي رقصة ارتبطت تاريخيا بمدينة “بيونيس إيريس”، وقد عبر عن هذه العلاقة أديب الأرجنتين جورج لويس بورجز بقوله: “لولا ليالي بيونس آيرس وأماسيها الساحرة لما كان التانجو، ولظلت فكرته الأفلاطونية تنتظرنا هناك في السماء، دون أن تتنزل إلى دنيا الناس”.
رقصة التانجو أعلنتها منظمة اليونسكو بطلب من الأرجنتين والأوروجواي حيث انتشرت الرقصة وموسيقاها، جزءا من التراث الثقافي الإنساني غير الملموس. ولكن حسب بعض المصادر فإن التانجو هي في الأصل رقصة أفريقية-أندلسية هجين، انتشرت في “اشبيلية” خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم انتشرت في الأرجنتين في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. وحسب موقع “sotor.com»”، أن كلمة “تانجو” نفسها يعود أصلها إلى دولتي النيجر والكونغو وفي رواية جبال الأندلس.
• ألا يرجح ذلك فرضية أن التانجو لم تننزل على مدينة بيونس آيرس من السماء مباشرة بل جاءتها صحبة راكب على ظهر سفينة، فورثتها عن أصحابها الأصليين، الذين لم تتبق منهم باقية سوى آثارهم المنسوبة لغيرهم؟
• الفن، منذ عهد أفلاطون قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة، كان ولا يزال يعد بلا قيمة في ذاته إلا بقدر ما يحثه في النفوس من قيم الفضيلة وطلب المثل الأعلى؛ فرقصة التانجو لعهد غير بعيد كانت محظورة اجتماعياً. وكان هواتها لا يجرؤون على ممارستها إلا سراً، وهي مرفوضة اصلا ولا مكان لها في مبادئنا وأعرافنا وتقاليدنا الإسلامية. فأين هي من فن العاقب الأصيل وأغانيه الشامخة، المعبرة عن القيم النبيلة، والمؤثرة في أصحاب العقول والاحاسيس الراقية، ويكفي أن من أهداني “سرديات” الزاكي التي تحكي عن عبقرية فن الفنان العاقب محمد الحسن ومعجبي فنه البروفيسور بابكر إدريس، أستاذي في كلية الزراعة جامعة الخرطوم وأحد دهاقنة الاقتصاد الزراعي وأساطينه. استمعوا بأنفسكم للعاقب رحمه الله وأحكموا عليه وعلى أعماله بعد أن تستمتعوا بـ”هذه الصخرة، و”مناجاة” وغيرها من الأغنيات.

تضرعاتي بحسن الخلاص؛ وتحياتي.

عبد العظيم ميرغني

عن المحرر العام

موقع زراعي سياحي بيئي

شاهد أيضاً

أشهر ثلاث شجرات في السودان ..!!

صديق السيد البشير siddigelbashir3@gmail.com (1) ٭… ويلتقي الشاعر اسحاق الحلنقي مع الموسيقار بشير عباس والزهرات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
البيئة بيتنا